لم تتمالك أمه نفسها فبكت فرحاً، ورغم أن المتصل على الطرف الآخر كان مدير التربية في حلب صالح الراشد إلا أن الشك في أن يكون ذلك "مقلب" من أحد الأصدقاء جعل الأب يصمد أمام تيار الفرح الغامر القادم ويؤجل ذلك 
حتى سماعه من جهة معروفة من قبله.
مدحت فرواتي هو الابن البكر لطبيب الأسنان هيثم فرواتي وطبيبة النسائية ورقاء نيازي والأخ الأكبر لعمرو، وريم، كان مستاء من قلة ساعات دراسته مقارنة مع زملائه الذين يخبرونه أنه يدرسون 12 أو 13 أو 14 ساعة بينما لا تزيد ساعات دراسته عن 6 – 8 ساعات، بهذا الأمر بدأ النقاش بين أفراد الأسرة الذين تحلقوا حول الجدة التي يبدو أنها كانت الملهم في هذا الانجاز وفي سيرة تفوق أفراد الأسرة.
نوبل في الطب
"القلب أحد الأعضاء النبيلة في جسم الإنسان" هذه الجملة التي سمعها مدحت من والدته في معرض الحديث عن تطوير طبيب مصري لولباً مكن من تقليص حالات استئصال الرحم لدى الأمهات بنسبة 90% ، جعلته يقرر أن يصبح طبيب قلبية.
هذا هو الهدف القريب، والهدف الأهم والبعيد، هو اختراع طبي يجنب مرضى القلب إجراء عملية القلب المفتوح، ونيل جائزة نوبل للعلوم الطبية ومثله الأعلى في ذلك العالم المصري أحمد زويل.
مساحة الحلم الكبيرة والمفتوحة على الاحتمالات الكثيرة كان يقابلها لدى مدحت "شبه يقين" في نجاح "لا يفسده" سوى نقصان درجة أو درجتان على أبعد تقدير "توقعت النجاح بتفوق وكنت واثقاً من نيلي العلامات التامة في كافة المواد، ما عدا مادة اللغة العربية في سؤال الموضوع بالتحديد، حيث تعتمد علامة السؤال على مدى تقبل المصحح لأدائي الكتابي".
حلم التفوق ومقابلة الرئيس
تحدثت والدته "د. ورقاء" عن تشجيعها له على الاهتمام بمادة التربية الدينية التي "كثف تحضيرها في 24 الساعة الأخيرة قبل موعد الامتحان، بعد "مذكرة إياه بوجوب نيل علامة جيدة فيها ليتثنى له تحقيق حلمه "في التفوق ومقابلة السيد الرئيس ضمن وفد الطلاب المتفوقين".
ويذكر مدحت أن مادة التربية الدينية كانت "المادة الوحيدة التي أجبرتني على السهر حتى الليل والنوم لساعات معدودة على عكس عادتي قبل حضور الامتحان".
يقر والده ببعد نظر والدته في هذه النقطة ولكل زاويته التي ينظر منها، فالدكتور هيثم كان مع ادخار الجهد الأكبر للامتحان التالي الأكثر أهمية في المفاضلة، أي امتحان الرياضيات.
و"بصراحة" يضيف الأب "دخول كلية الطب يتوقف على عدد الدرجات الناقصة ونحن نريد أن يدخل الجامعة الحكومية لأنها الأفضل علمياً كما أن الجامعات الخاصة باهظة التكاليف ومستقبلها لا يداني مستقبل خريجي الحكومية".
أمٌ طَموح
والدة مدحت اعتبرت أن الميل للتفوق هو الأساس في تحقيق أي إنجاز من هذا النوع بينما تعتبر جدته عزيزة آلاتي الحائزة إجازة في الحقوق في ستينات القرن الماضي ومربية أجيال لأكثر من أربعة عقود، أن الطموح في قلب وعقل الإنسان هو ما يدفعه لبذل الجهود المضنية لتلبية طموحه وتقص بكثير من الاعتزاز كيف حصلت على شهادة الحقوق "بشكل سري" بعد زواجها وكيف اضطرت لوقف التسجيل في جامعة دمشق بسبب الإنجاب.
لم تعمل الجدة عزيزة في المحاماة بل تولت إدارة مدرسة طوال عقود، ولأن للطموح عندها حيز كبير فقد أطلقت على ابنها البكر اسم "طموح" واضعة نصب عينيها نيل الإجازة في الحقوق.
"انتظرت إحداث كلية حقوق في حلب، وقدمت الامتحان بشكل سري كنت اصطحب أطفالي الثلاثة إلى ساحة الجامعة هم يلعبون ويلهون وأنا أقدم الامتحان حتى تخرجت وكانت مفاجأة كبيرة لزوجي".
اعتراض غريب!
لكن د.ورقاء تؤكد على "حب التفوق وزرع فكرة التفوق منذ الطفولة" أحد أبرز مقومات حصد النتائج الإيجابية في المستقبل.
يروي والد مدحت كيف أنه قدم اعتراضا لدى دائرة الامتحانات على نتيجة امتحان مادة اللغة العربية التي نال فيها مدحت 58 درج من أصل 60 وكانت العلامتان الوحيدتان التي فقدهما من المجموع العام لامتحان الصف التاسع ويضيف بأن "الاعتراض قوبل بالاستغراب من قبل الموظف ولم يردنا رد عليه لاحقاً، وقد توقعت ذلك من خلال ملامح وجه الموظف آنذاك الذي قال "58/60 و288/290... على إيش جاي تعترض!؟!".
تعود والدته بالذاكرة إلى المرحلة الابتدائية عندما استهلك مدحت ورقة امتحانية كاملة في الإجابة على سؤال واحد، لقد كتب إجابة مشكوك فيها لم يجزم بها وبينما هو يفكر نظر في ورقة زميله ولمح فيها الجواب الصحيح فعمد إلى تصحيح الإجابة التي كان متردداً في كتابتها لكن ضميره أنبه "كيف أقوم بذلك وأنا صائم؟".
عاش كطفل "صراعاً أخلاقياً" بريئاً لقد كتب الإجابة "المنقولة" والتي كان سيتذكرها طبعاً كما قالت والدته لأنها عكس الحقيقة تماماً ومما لا يصدر عن تلميذ عادي فكيف بالمتفوق تتناوب الشطب مع الإجابة الخاطئة كحوارية داخلية حتى استهلك غالبية أسطر الصفحة وفي النهاية استقر رأيه على تسجيل الإجابة الخاطئة معتبراً أن ليس من حقه كتابة الإجابة الصحيحة كون عينه "رفــّت" على ورقة زميله وقد صارح أمه بما جرى!!
التخطيط والتنفيذ
ويروي مدحت عن برنامج تحضيره للامتحان التي ساعدته فيه والدته ويقول "بدأت دراسة مواد الثالث الثانوي منذ العام الدراسي الماضي فقسمت المواد على عامين، وبمعدل أربع ساعات دراسية لكل يوم إلى أن وصلت إلى العشر ساعات في الأيام الأخيرة من شهر أيار".
ويضيف "اعتمدت على الدراسة النهارية بدءاً من الساعة 8:30 صباحاً، تتخللها أوقات الراحة والغذاء ومتابعة بعض المسلسلات التي أحبها والتحدث مع أفراد عائلتي والأصدقاء".
ويصف مدحت طريقة أدائه أثناء الامتحان فيقول "استطعت التغلب على الشحن والتوتر الناتجين عن دخول قاعة الامتحان بالتروي والتركيز لدقائق معدودة بعد الحصول على ورقة الأسئلة ومن ثم كنت اسمي باسم الله وأقرأ وأجيب على السؤال تلو الآخر وانتقل إلى السؤال الذي يليه عندما لم أكن أعرف الإجابة عليه دون تضييع الوقت ثم أعود إليه لاحقاً".
وعن ثانوية الباسل المختلطة للمتفوقين يقول مدحت: "أنها تمتاز عن غيرها من الثانويات بقدرات وخبرة مدرسيها وإلمامهم بمبادئ التصحيح وسلم العلامات، كما أن جو المنافسة السائد في الثانوية لكون جميع طلابها من المتفوقين على مستوى المحافظة يشكل حافزاً ودافعاً للعمل أكثر" ويتمنى مدحت "المتعب من الدوام الطويل للثانوية" من الطلاب التركيز على حصص الإثراء حتى في الصفوف الانتقالية "لأنها تفيد الطالب كثيراً في السنة الأخيرة من دراسته".
الانجاز الباهر لمدحت وضع شقيقه الأصغر عمرو في تحد كبير، وهو متفوق كذلك ولم يفقد سوى أربع درجات في الصف التاسع.
وعمرو هو طالب في الصف الحادي عشر في ثانوية الباسل المختلطة للمتفوقين يقول "طموحي هو دخول كلية الطب والتخصص في طب العيون، ومادة العلوم هي أحب المواد بالنسبة لي، وأخشى مادة الرياضيات كثيراً".
ويتحدث عمرو عن جو المنافسة بينه وبين أخيه بدءاً من الدراسة "ومسؤولية التفوق التي حملها إياه مدحت" وصولا إلى رياضة كرة المضرب وكرة الطاولة التي يمارسها مع أخيه.
استقبلتنا العائلة بكهرباء مقطوعة، وأبينا أن نغادرها إلا على نور متذكرين "فتاة السراج" التي نالت المركز الأول على مستوى محافظ حلب دون أن يكون في منزلها تيار كهربائي ضاربة المثل الساطع في أن إرادة الإنسان أقوى من كل الظروف، إلا أن شركة الكهرباء مددت تقنينها لذلك اليوم ساعة إضافية!!
باسل ديوب – بمشاركة سركيس قصارجيان
سيريانيوز شباب – حلب
