صعب هو الوقوف أمام حضرة الصفحة البيضاء، بل مقلق، فالصفحة
البيضاء تشدك أن تملأها بالكلمات أو بالألوان، تستفزك، وتثير فيك الرغبة بتحطيم كل
آفاقك التي جعلتها حدا، أو أملا، أو حلما، أو قيدا، لكن الاصعب أن تبدأ في ملئ
الصفحة ، فتكتشف أنك عاجز، خائف عن خوض غمار البياض، فالافكار تهرب منك كالقبض على
الماء، والألوان تذوي في الرماد،
لماذا تفقد الحروف لياقتها؟
هل
هذا المرض عارض؟
أم
كمون الكلمات في زوايا لاوعيك القصية؟
هل
هي يدك المبتورة منذ قرون؟
أم
هو رفض المطر أن يهطل فوق حديقتك؟
لست تدري، نعم لست تدري، ما الحقيقة.... ربما جميع الاسباب، أو
بعضها، اجتمعت كي تكون جدارا عاليا، يسد منافذ الهواء التي تحب أن تطل منها، فتجلس
في الظل وحيدا، عاجزا، ثم تبدأ بالذوبان في تيار المكان، وبعد برهة من الوقت تضيع
كأنك لم تكن موجودا، وحين يأتي الحفار كي يدفنك لا يجدك فيترك شاهدتك، فارغة من اي
تاريخ.
تنهض هذا الصباح، ككل صباح، لا تعد وجبتك، بحركة سريعة تمشط
شعرك، ثم تخرج كي تسير جانب الجدار، عينيك لا تتلفتان يمنة ويسرى، لا تعرف مما
تخاف، لكنك مقتنع أنك خائف، حتى تصل العمل أو الجامعة، فتكتمل الصورة، تؤطرك، ثم
ترميك...
ككل الكائنات التي حكمت أن تكون بشرية، في عالم أمست الانسانية
فيه، صيحات مفزعة، وأطراف مصنوعة من الطين، تحلم أن تحب، وأن تمارس ذاتك، أو أن
تصنع مستقبلا ما، اي مستقبل، لكنك تغطس في الخيبة، فطيور السنونو رحلت في هذا الزمن
عن أعشاشها...
تقف، تدور في غرفتك، بحيرة، ورقتك، ما تزال بيضاء، تشغل
المسجلة، تستمع لموسيقى جدل، لم تعد ترغب ان يغني لك أحد، فقط تريد أن تستمع الى
الموسيقى فهي وحدها التي تستطيع أن تشغل مساحات عقلك القلقه لساعات طويلة، حتى بعد
أن تقفل المسجله،
ما اروع الموسيقى! تتمتم بمتعة، فجأة ينقطع هذا الانسجام، بصوت
ارتطام معدن سيارة بجسد تعب، فتطل من مكان ما بهلفة فزعه، ثم يلاشى الفزع رويدا
رويدا، فقد بدأ العالم يصغر تحت قدميك الحرتين، لأول مرة.