قريباً سيرحل الأمين العام للأمم المتحدة كما يعرف الجميع، وتطرح علينا مسألة بديله
أسئلة لطالما أرقتنا نحن العرب، ما هي الأمم المتحدة وما هو دورها بالضبط، وحتى نصل
إلى دورها لا بد لنا من نظرة خاطفة عليه،
بعد الحرب العالمية الأولى أقامت الأمم المنتصرة ما سمي بعصبة الأمم، وهو مشروع لفض
النزاعات وتلافي الحرب التي غيرت وجه العالم إلى الأبد بعد ذلك، علماً أنها لم تكن
الحرب العالمية الأولى لأن العالم خاض حروباً في أوروبة أفظع وأشنع خلال القرن
المنصرم، إلا أن تطور الصحافة والإعلام من جهة، والآلة الحربية من جهة ثانية
ونتائجها من جهة ثالثة جعلها محور هام في تاريخ الإنسانية، ففي الشرق تضعضعت
الامبراطورية الروسية ممهدة لاستيلاء الشيوعين على السلطة وبناء الإتحاد السوفيتي
ككيان من مجموعة دول محتلة من قبل روسيا القيصيرية وفي ألمانيا سقوط الرايخ واحتلال
أجزاء من ألمانيا وفرض عقوبات قاسية على الإقتصاد الألماني الصناعي الدائم الثورة،
وفي الشرق الأوسط تم الاتفاق في سان ريمون على سلخ أراضي السلطنة العثمانية
وتجريدها من أملاكها في آسيا وأوروبة فنالت ما بقى من أراضي أوروبة الشرقية
استقلالها لتدخل ضمن التبعية الأوروبية، ولتبدأ مشكلة الشرق الأوسط الأساسية، عصبة
الأمم التي شرعت احتلال وانتداب الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على كل من
آسيا وإفريقية وأوروبة الشرقية لم تحظ بأي شرعية سوى شرعية الغاب، ما أجبر دولاً
كثيرة فيما بعد من الإنسحاب منها مرة أخرى وسحب الاعتراف بشرعيتها ما أدى على
انهيارها وبدأت الحرب العالمية الثانية، لتحصد الملايين وتنتهي بقطبين دوليين وقطب
ثالث متفرج هو الأمم المتحدة،
لن
نعود على نتائج الحرب العالمية الثانية ولا على تشكيلة الدول بعدها، فجميعنا يعرف
أن احتلال فرنسا والحرب الأهلية الفرنسية (بين الديغوليين والفيشيين) أدت إلى إضعاف
فرنسا كما أن القصف الألماني والحصار على بريطانيا من خلال قطع مواردها من غالبية
مستعمراتها التي نازعها عليها الألمان وبالذات في إفريقية أدى إلى وضع سياسة
إستعمارية جديدة في ظل تنامي المد القومي لدى الدول المستعمرة، سواء في إفريقية أو
في الشرق الأوسط من جهة والمد الشيوعي في أوروبة الشرقية وأمريكا الجنوبية
والكاريبي من جهة أخرى وحتى المستعمرات التي خضعت للتاج البريطاني فيما مضى
كأستراليا وكندا لم تسلم من المشكلات، حينها اتفقت الدول العظمى على سياسة جديدة هي
سياسة الهيمنة والسيطرة غير المباشرة على الموارد من خلال أنظمة وحكومات عميلة
مدعومة من الغرب أو الشرق، من أمريكا وأوروبا أو من الاتحاد السوفيتي!!
وعليه فإن الأمم المتحدة قامت لتبدأ عهداً دولياً جديداً، وضعت مجدداً الأمم
المنتصرة في الحرب العالمية الثانية مبادئها وسمحت للدول الصغيرة أن تطرح آرائها
دون الأخذ بها، ووضعت آليات جديدة كآلية مجلس الأمن الدولي الذي سلحته بالحق
المباشر في التدخل بشؤون الدول الأخرى طبعاً لما دعي بالبند السابع، ولكن هل كانت
الأمم المتحدة على مستوى التحديات،
استلم زمام المنظمة الدولية السيد تريغيف لي من النرويج من العام 1946 وحتى العام
1952، وهذا العام شهد بالإضافة إلى كونه غارقاً في فوضى التأسيس أول مشكلة جدية
ورثها عن عصبة الأمم وهي مشكلة فلسطين، لكن جميع خبراء الأمم المتحدة وجميع مساعيها
فشلت في قيام سلام أو وقف النزاع بين العرب والصهاينة الذين أنشئوا كيان إسرائيل
مدعومين لوجستياً وسياسياً بفرنسا وبريطانيا، حتى أن دور الأمم المتحدة لم يصل
لمرحلة التهدئة في النزاع، كما أنها – أي الأمم المتحدة- في عهد السيد "لي" لم تتخذ
أي إجراء لمنع تدخلات الدول العظمى في الشرق الأوسط الذي أصبح ساحة للعب بين
الأتحاد السوفيتي والولايات المتحدة...
أما في عهد السيد داغ همرشلد 1953-1961 السويدي فإن الأمم المتحدة قد تحولت إلى
متفرج بل مساند للتدخلات الغربية في شؤون الدول الناشئة، ما كلف الأخيرة جوهر
إستقلالها الحقيقي، ففي إفريقية لعبت الأمم المتحدة دوراً سلبياً في الأزمة
الكونغولية، وأثبتت الدول الغربية أن الشرعية الدولية كلام فارغ حينما أعطت الأمم
المتحدة اعترافاً بحكومة انقلابية في إقليم "كتنغا" المنفصل عن الكونغو، مما أدى
إلى قتل رئيس الوزراء الكونغولي "لومومبا" المنتخب من شعبه وحل البرلمان الكونغولي
بتدخل سافر من بلجيكا آنذاك، ضاربة بعرض الحائط الوطنية الكونغولية ومستقبل إفريقية
الحرة الموحدة في آن، ولا ننسى فضل السيد داغ همرشلد إبان العدوان الثلاثي على مصر،
في هدف إلى إسقاط نظام القوميين العرب بقيادة السيد جمال عبد الناصر، ناهيكم عن جبن
الأمم المتحدة إزاء ما حدث من إراقة دماء في أوروبة الشرقية، وما آلت إليه أوضاع
الثورات في أمريكا الجنوبية بذروة التدخلات الغربية حتى اغتيال غيفارا وقيام دولة
كوبا وبدء الحرب الباردة التي تجلت ذروتها في عهد السيد يوثانت من بورما
1961-1971وبقيت الأمم المتحدة لا تقوى على أي دور سوى على فرض إرادة الدول الكبرى
على الصغرى وتجلى ذلك في الغضب السوفيتي إزاء صمت الأمم المتحدة من مسألة العدوان
على سوريا ومصر في حرب الأيام الستة إلى درجة أن خروتشوف هدد المجتمع الدولي آنذاك
بالتدخل المباشر ملوحاً بحذائه وضارباً بعقبه في مجلس الأمن...
أما خلال الأعوام الممتدة من 1972 منذ أيام كورت فالدهيم مروراً بخافيير دي كوبيار
وبطرس غالي وانتهاء بكوفي أنان، لم تختلف سياسات الأمم المتحدة كثيراً فدورها في
الشرق الأوسط منوط بإرادة القوى الكبرى متمثلة بالإتحاد السوفيتي والويلايات
المتحدة وفي إفريقية الجنوبية أيام الحكم العنصري رهنت إرادة الأمم المتحدة
بالقرارات البريطانية والأمر سيان بالنسبة للحروب الأهلية التي قطعت أوصال إفريقية
الوسطى والغربية والمجاعات في إفريقية الشرقية، ومسألة السودان ولا ننسى مسألة
يوغوسلافيا حين استخدم البند السابع لتهديد سيادة الدولة مما أدى في نهاية المطاف
إلى تفتيت الاتحاد اليوغوسلافي فيما بعد، ولا ننسى موقف الأمم المتحدة العاجز إزاء
الاعتداءات الإسرائيلة على جيرانها وبالذات لبنان، فالتوغل الإسرائيلي تم عام 1982
في لبنان رغماً عن أنف العالم كله، ولم يتوقف عند حد تجاهل تطبيق مبادئ الأمم
المتحدة – التي طبقت على العراق فيما بعد عند غزو الكويت- بل حتى لم يرافقها أي
إدانة لمجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين ولا اللبنانيين أو السوريين منذ تأسيس الكيان
وحتى اليوم، بل كان نظام الأمم المتحدة عاجزاً حتى عن الإدانة في أغلب الأحيان، ولم
يختلف عهد أنان عمن سواه، والتجربة الأخيرة مع الأمم المتحدة أكبر برهان على فشلها
المتواصل منذ ما ينوف عن ستين عاماً وكونها مطية للدول العظمى وتوفر ما دعي بغطاء
الشرعية الدولية حتى إن عجزت تلك الدول عن توفير الحجة تجاهلت مجلس الأمن والقرارات
الدولية لتنفذ ما تشاء ومسألة احتلال العراق هو أمر واضح وضوح الشمس وقد شكل فرض
القرارات الدولية على الدول الصغيرة كلبنان وسورية تدخل سافر وإجباري في شؤون الدول
الأعضاء مما يثير التساؤلات عن الآلية وراء تلك التدخلات!!!
عموماً كائناً من كان الأمين العام المقبل للأمم المتحدة، فإنه لن يكون شخصاً
ثورياً يستطيع تغيير ما أفسده الزمان ونقصد هنا بالزمان هي الإرادة الخفية للدول
العظمى وسياساتها الإستعمارية تجاه دول العالم الصغيرة