من واجب جميع السلطات الشرعية في العالم بسط الأمن ونشر الأمان بكافة الوسائل المتاحة والتي تضمن الاستقرار وتحافظ كل المحافظة على سلامة الأفراد كل الأفراد فيها مهما كانت آراؤهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية مختلفة أو متباينة.

يقول أحدهم إن السلطات التنفيذية في أي بلد هي المحتكر الوحيد لاستخدام العنف المقنن الذي يضمن حقوق الأفراد الخاصة والعامة في المجتمعات.

إن ما يعطي هذه السلطات هذا الاحتكار الكبير والأوحد يتلخص حسب رأيي فيما يلي:

-أن يكون أفراد هذه السلك على درجة كبيرة من الوعي والأخلاق ، ما يؤهلهم ليكونوا مهابي الجانب ومحبوبي الشخصية فيلجأ إليهم القوي والضعيف على حد سواء دونما حاجة لوسيط أو لإطراء.

-أن يراعي أفراد هذا السلك الفصل بين مكوناته فلا ينبغي أن يعمل عمل عدة جهات دفعة واحدة ، فيكون الحسيب والرقيب والجلاد والقاضي وجهة الادعاء في آن واحد معاً ، حيث يكون غطاء شرعيته انفصال مهامه.

-تفقد هذه السلطات أياً كان نوع مهامها ودرجته الوظيفية شرعيتها وهيبتها ووطنيتها في اللحظة التي ترتهن فيها لطبقة دون أخرى خصوصاً ناحية الانحياز ضد فئة تختلف معها سياسياً بحيث تجعل بطفرتها الشاذة هذه هيكل الدولة الذي هو جسد يلم جميع أعضاء وأطياف مكونات الدولة ليصبح فيها هذا الجسد الواحد قابلاً للاختراق والانزلاق والانتكاس فيصاب الجسد بأكمله بالتمزق ويرهقه التشتت ويصبح عرضة للتهديد من أضعف المنغصات فيتهدد كيانه وتتقلص مساحة سلطانه.

في خضم الحديث عن العنف المقنن علينا أن لا ننسى أن الاعتماد على الحلول العنيفة والقمعية دون المرور بتجريب درجات سلم التفاهمات والحلول التي لا تعرف ألواناً في مضامينها  والاعتراف بالآخر ومطالبه وسماع مظالمه والقيام بالتحري مؤسساتياً عن كل ما يكفل الحيادية في عدم التفريق بين المسؤول والمسؤول عنه حين يصل الخلاف بينهم إلى مدى يكون الجميع فيه تحت قبة العدالة على قدم واحدة من المساواة.

لعلّ أحد ما أوصلنا إليه الحال من سوء عاقبة ومآل هو الاعتماد على سياسة الترقيع و(تمشاية الحال) ورفع شعارات هلامية الطابع ( لا صوت فوق صوت الممانعة) (البلد تمر بأوقات عصيبة وأزمات متتالية) تتخطى الحقوق الخاصة بل وتدوس عليها بحجة عدم ملائمة الزمان المكان لمواقف صريحة وواضحة تصدر عن رؤوس من هم في سدة القرار واستمرار انتهاجهم لسياسة الترقيع هو ما يدفع الكثيرين نحو التزام خيار التغيير بكل اصرار مهما كان الثمن ومهما تصاعدت لهجة العقاب والوعيد.

إن الجرائم التي مرت في الثمانينات في مدن سورية كحلب وحماة والتي ترافقت بقمع عنيف وعشوائي طال الحريات والممتلكات ولم يتم معالجة جروحها حتى الآن لم يكن سوى خلفية لأحداث اليوم والتي من المرشح أن تعود عوارضها  للظهور حتى لو تم إعادة بسط الأمن بالقوة، فما تمر به الحال مدن كحمص الجريحة ودرعا الأبية وإدلب الباسلة ودير الزور الشامخة وغيرها من المناطق التي باتت السلطات تسميها ببؤر المناطق الساخنة، أو تلك المرشحة للدخول بذات الدائرة هي نتاج هذه السياسة التي أدمنت سياسة التأجيل في معالجة الجروح وهي من أوصل الالتهاب كي يمتلئ بالغضب والقيح والمرض وجعل الموضوع أشبه بدفن جمر يتأجج تحت كثبان من الرمل يحسبها الجاهلون جبالاً راسخة من السيطرة والإحكام وهي تمتلأ غيظاً بالغضب.

لم يع أحد حتى الآن أو يتعلم من أن الدوس على جراحات المواطنين وانتهاك كرامتهم والتعدي على دساتير تكفل حقوقهم هو من يصنع الانفلات ويؤهب لسيادة شريعة الغاب حيث يرتهن الإنسان لغريزته الحيوانية في حل نزاعاته فينزع عن نفسه الحلم والصبر وينجرّ نحو عالم لا يسوده قانون أو عقل ورشاد، فتحدث الانشقاقات والتصدعات في جسد المجتمعات، فلا يغرنك هدوء ولو دام لعديد من السنوات ولا يغرنك قوة يمتلكها طرف على طرف آخر فلا تغتر أيها القوي أو أيها الراكن لصف الأقوياء فدوام الحال من المحال.

إن أول ما يدفع للفوضى هو الانشقاق العميق بين أفراد المجتمعات فذاك ضعيف مستضعف وذاك يستقوي بقانون لا يسري الا على الضعفاء فيركن مخدراً ضميره للأقوياء دونما تمحيص أو إبداء تساؤل عن شكوى ووجع الطرف الآخر.

إن التجييش والدعوات لاستباحة دماء السوريين المدنيين منهم والعسكريين وتوريط البعض بإظهار اندفاعه كي يسحق ويمحق الطرف الآخر في المجتمع هو إهانة لحضارة تجاوز عمرها سبعة آلاف عام تضج بالشرائع والقوانين الكفيلة بحل أعقد المعضلات التي يتسبب بها التعدي على حقوق البشر شريطة استواء الجميع بلا مناصب أمام قضاء نزيه وعادل.

إن الدم السوري حرام، حرام كله حين تكون دماء السوريين جميعهم تحمل ذات القدسية لا يميز نفاستها وفرادتها اختلاف في الرؤى السياسية أو الدينية أو الفكرية. هو حرام حين لا يسمح أن يتسرب ولو جزء بسيط منه لخارج نطاق الكيان  السوري فيسمح هذا بتأجيج  انقسام عميق ويفسح المجال لاحقاً لحالة صراع طويل الأمد يأخذ طابع العنف والعنف المضاد ويفرز وطنية الدماء بحسب جهة الصراع. وحدها الأم السورية تلك التي حملت وسهرت وربت هي الخاسر الأكبر لبينها من كافة الاتجاهات جراء احتكار سلطة ينبغي أن تكون متداولة وتصب في مصلحة رفعة الوطن وتقدمه ومنعته كقلعة ضد أي خطر خارجي محدق يترصد بنا ويتصيد أخطاءنا التي لم تعلمنا الجراح أن نستفيد من عدم تكرارها. فماذا ينتظر من يعتلي سدة القرار؟ أن  يلجأ المتضررون للمحكمة الجنائية الدولية التي تلوّح بإمكانية ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية(قديمها وحديثها) ضمن المنظومة الدولية لحقوق الإنسان ونحن نعرف تمام المعرفة أن مثل هذه المحكمة تم إنشائها كي تكون وسيلة اختراق لمفهوم السيادة ،خاصة وقد أشارت بعض هذه المنظمات إلى وجود مثل هذه الانتهاكات التي يتم توثيقها فماذا ننتظر كي نعيد الحقوق المؤخرة ؟ هل هناك معاق في التفكير لازال يراهن على مرور الوقت وأن الجريمة قد تموت بالتقادم؟ إن مرور الوقت يا سادة ليس في صالح بناء دولة المواطنة والقانون، ليس في صالح بناء مواطن سيفكر بالانتقام أو اللجوء لأي وسيلة يعلن فيها ان حقوقه ليست تافهة وأن دماءه ليست رخيصة لأنهم يتجاهلون قدسيتها ويصنفونها حسب مفهوم ولاءهم الأعمى. إن لعنة الدم السوري المسفوك ستظل يلاحق القتلة والمجرمين مهما امتد بهم الزمان وهو جريمة قبيحة لا يمكن تجميلها والتحايل على مسماها مهما امتد بالمجرمين طول مقام، والعاجز عن إنصافها هو إما متخاذل أو قاصر لا يرقى أن يحمل مسؤولية.

قد تظهر سلوكيات أو ممارسات خاطئة جملة وتفصيلاً من الطرف الضعيف الذي تم تضييق الخناق على جراحاته وتم خنق آهاته وعلينا في هذه الحالة وقبل إدانة هذه الممارسات السؤال عمن أوصل هؤلاء لهذا الطريق المسدود من مستنقع الاستنجاد بالخارج المرفوض قطعاً فهل كنا على مستوى المسؤولية الوطنية الحقيقية فسألنا أنفسنا هل كانت العدالة مقياساً أخضع المسؤول والمواطن على قدم المساواة لكفتي عدالته فضمن الحقوق كالكرامة والأمان فيتعمق الحس بالخوف على كل ذرة في الوطن لأن كل فرد فيها مصان الجانب.

يغفل السذّج من الوطنجيون الفارغين عامدين حد الغباء أن في الطرف الآخر جراحاً غائرة ودماء تمت استباحتها وقانوناً تم تحنيطه ومشاعر تم استفزازها ومطالب تم تلويثها بكل وقاحة ولا يحتاج كشفها كثير عناء بل تحتاج ضميراً يقظاً وقانوناً يكون سلطان سيفه مسلطاً على رقاب الجميع. فليسارعوا بالتبرء من الجرائم وليظهروا مدى مسموعية كلمتهم عند الإشارة لمواطن العيب والخلل والقصور ولنشاهد بأعيننا كيف سيستطيعون محاسبة من لا يمكن محاسبته وهو محمي بمنصبه مغرور بأعداد من تبعوه ويضرب بسيف (كثرتهم).