من يأتي إلى دمشق لابد له من زيارة ضريح صلاح
الدين الأيوبي الذي فاقت شهرته حدود وطنه واحترام شعبه لتصل إلى تقدير العالم كلّه
له، لدرجة أن امبراطور ألمانيا فيلهيلم الثاني Wilhelm II وضع على ضريحه أثناء
زيارته لدمشق عام 1898م باقة ورد وأهداه ضريحاً جديداً يليق بمكانته العالمية كقائد
تاريخي يجمع بين البطولة والإنسانية. ولست هنا في مجال الحديث عن مزايا ومناقب صلاح
الدين العديدة، لكنني أوردته لأعرّف القارئ على حاكم آخر لا يعرفه الكثيرون، يقع
قبره إلى القرب من ضريح صلاح الدين، لكنّه مهمل لا يزوره أحد، ويقال أنه في فتراته
الأولى تحوّل إلى مكبّ للنفايات لشدة سخط الناس من صاحبه.
إنه قبر الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب خامس سلاطين
الدولة الأيوبية، والذي حكم عشرين عاماً بين أعوام 1218 و 1238م ويقع في بداية
المدخل الشمالي للجامع الأموي بالقرب من المدرسة الجقمقية، فما هو السبب الذي جعل
قبره وذكره مهملاً إلى هذه الدرجة عبر التاريخ رغم كل مناقبه التي جعلته يحكم عشرات
السنين؟
لم يكن الملك الكامل سليل عائلة سيئة، فوالده
الملك سيف الدين أبو بكر أحمد بن أبي الشكر أيوب بن شاذي بن مروان، الملقب بـالملك
العادل أبو بكر، شقيق الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وأحد ملوك الدولة الأيوبية.
كان الملك الكامل صحيح الإسلام، محباً لمجالسة العلماء، فيه عدل وكرم، وله هيبة
شديدة، وهذا كلّه لم يجعله مقدّراً ومكرّماً من شعبه والشعوب التي تعاقبت بعده، فما
الفعل الذي فعله ليكون في هذا المقام السيّء؟
لقد تنازل هذا الحاكم للمحتلّين الغزاة عن مدينة القدس، المدينة التي تملك موقعاً
خاصاً في قلب شعوب المنطقة، في واحدة من أعجب التنازلات التي يقدم عليها حاكم حين
تشتد به الأزمة، وتحيط به الملمّات من كل جانب، فأقدم على عمل طائش، بعيد عن الحكمة
والسداد، وفرط في المقدّسات التي لا يملك التصرّف في أمرها شيئاً وتجاهل أن هذه
المدينة هي موطئ الأنبياء ومصدر الديانات، وأولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين.
وإذا كانت شهرة عمّه صلاح الدين الأيوبي أتت أساساً نتيجة نجاحه في استرداد بيت
المقدس في الثاني من تشرين الأول عام 1187م بعد أن كان الصليبيون الغزاة قد استولوا
عليها في 15 تموز 1099م ومارسوا فيها أحطّ الأخلاق وحشية، فأقاموا المذابح لشعبها
العزّل، وأباحوا المدينة المقدسة للسلب والنهب والقتل عدة أيام، حتى امتلأت الشوارع
بجثث قتلاهم، فقد عرض الكامل على الإمبراطور فريدريك الثاني تسليمه بيت المقدس
وعسقلان وطبرية واللاذقية، وجميع فتوح صلاح الدين بالساحل الشامي مقابل مساعدته في
حربه ضد أخيه المعظّم في قصة يندى لها الجبين.
بدأت القصة بعد أن حقق تضامن أبناء السلطان العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم
عيسى، والأشرف موسى النصر في دمياط بمصر، وأفشلوا حملة الغزاة الصليبية الخامسة
بقيادة "جان دو برين Jean de Brienne"، وكان المأمول أن يظل هذا التحالف قوياً، لكن
ذلك لم يحدث، فانفرط العقد، وانكفأ كل واحد من هؤلاء القادة الأخوة حول ذاته، يعظّم
من شأن مصالحه ومكاسبه، دون النظر إلى مصلحة أمته؛ فشبّ صراع بين الكامل وأخيه
السلطان المعظم عيسى صاحب دمشق، فاستعان كل منهما بقوى خارجية لمؤازرته في مواجهة
الآخر، فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة
الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني Friedrich II
صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا.
ورغم زوال السبب في هذه الصفقة المهينة فقد وافق الملك الكامل على تسليم بيت المقدس
إلى أعداء الأمة دون أن يبذلوا في الاستيلاء عليه قطرة دم، أو ضربة سيف، أو طعنة
رمح، فحققوا ما عجز عن تحقيقه ريتشارد قلب الأسد بجيوشه الضخمة وإمكانياته الكبيرة،
وتمّ عقد اتفاقية يافا في الثامن عشر من شباط عام 1229م أخذ بموجبها الأعداء بيت
المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا.
ويصوّر المقريزي ما أحدثه هذا التنازل المخزي بقوله: "فاشتد البكاء وعظم الصراخ
والعويل، وحضر الأئمة والمؤذّنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في
غير وقت الأذان.. واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر
الأقطار". وعندما أحس السلطان الكامل أنه تورّط مع ملك الفرنج بما لا يملك قراره
والتصرّف به أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ووضع العديد من المبررات لفعلته،
غير أن هذه المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس. وظلّ بيت المقدس محتلاً من قبل
الصليبيين نحو خمسة عشر عاماً بسبب ظلم الحكام وسوء تصرفهم، حتى تم تحريرها في
الحادي عشر من تموز من عام 1244م.
ما أشبه الأمس باليوم، فالقدس لم يفرط بها إلا عندما ضعف حكام المنطقة تحت شهوة
السلطة والحكم، فتقاتل الأخ وأخيه واستنجدوا بقوى الغرب والشرق لتحمي ملكهم ناسين
أو متناسين أنهم ملوك لشعوب من المفترض أنهم يحكموهم ليحققوا مصالحهم ويحموا
أراضيهم ويحافظوا على حدودهم ففرطوا بها دون رادع أو ضمير فأنكرتهم هذه الشعوب
ونزعت منهم ألقاب البطولة التي خلّدت قادة غيرهم انصاعوا لإرادة شعوبهم فحفظوا
كرامتهم وصانوا بلادهم وحموا حدودهم وأهم من هذا وذاك أنهم حافظوا على مقدساتهم ولم
يفرطوا بها.