تعود بدايات انهيار الحضارة العربية العظيمة التي رفعت راية الإسلام عالياً في أكبر رقعة من العالم إلى فترات نهاية الحكم العباسي، وبدء انحسار لغة الحوار التي نشرت هذا الدين العظيم بلسان عربي فصيح ومبدع في قدراته اللغوية، بعد أن حمَله الله رسالة وثقافة الدين الجديد إلى العالمين جميعاً (إقرأ باسم ربك الذي خلق)، لتتحول هذه الرسالة الحوارية بعد ذلك إلى ألسنة غير عربية لاتتقن هذا الفن العظيم في الحوار والإقناع، فأخرجته من بعده الإنساني الجامع السمح، ونقلته إلى بعد جديد بعيد عن مفاهيم الإيمان الإنساني المتكامل بالخالق وتقدير مخلوقاته، لتحوَله إلى عقائد متناحرة دنيوياً، همَها السيطرة على السلطة باسم الدين، مستغلة ملايين الناس البسطاء، الذين أسلموا أمرهم إلى الله، واتَبعوا مسالك من يعتقدون أنهم أولياء الله في الأرض، فساروا في مسار لا يرضي الله، يفرق الناس ويحضَهم على الاقتتال، بدل أن يجمعهم ويحضهم على السلم والأمان، ليستغل سياسيو العصر الدين لقيادة مشروعهم في السيطرة على العالم، ضمن حملتهم الواسعة في تفكيك الروابط العقائدية والفكرية التي لاتزال تجمع الكثير من أمم وشعوب هذه المعمورة.
ومما لاشك فيه أن دمشق كانت حاضرة الدنيا وعاصمة العالم في صدر العصر الأموي، قبل أن تنتقل الخلافة منها إلى الكوفة، ثم الأنبار، فبغداد التي حافظت على هذا الإرث العظيم إلى أن سقطت وتراجع دور الخلافة العربية، ودخلت البلاد مراحل التدهور والانقسام تحت حكم شعوب حاولت المحافظة على الإسلام، لكنها أهملت دور اللغة العربية العظيم في نشوء وتطور ثقافة هذا الدين العظيم، الذي بني أساساً على مبادئ الكلمة في السلم والمحبة والألفة بين الناس، محمياً بسيف العدل والحق، ليتحول في أيدي هؤلاء الشعوبيين إلى سيف مسلَط على رقاب الشعوب، ويهاجم أول ما يهاجم الأمة التي حملت رسالته، ويكون همَه الأول والأخير الوصول إلى السلطة، واغتنام الفرص والمكاسب، لتتحول رسالة السماء الإلهية الخالدة إلى مكاسب دنيوية يستغل فيها الدين لبسط النفوذ واستلاب السلطة
وبغض النظر عن المجاعات والحروب التي سادت الأمة العربية في زمن انحطاطها بين الممالك الصغيرة المتناحرة في دمشق وحمص وحماة وطرابلس وغيرها عبر التاريخ، قإن راية الإسلام السمحة التي جمعت ووحدت أضخم أمة حكمها العرب بتآلفهم وقوة انتمائهم العروبي في التاريخ، أضحت رهينة فتن دينية كبيرة في دمشق وغيرها من العواصم العربية ما مهد لانهيار الأمة العربية، التي شع نورها في العالم أجمع، وأسست حضارة إسلامية لازالت آثارها واضحة في الشرق والغرب من الصين والهند امتداداً لتخوم أوربا، لتبدأ هذه الأمة بالانهيار أمام زحف التتر القادمين من الشرق والصليبيين من الغرب، وتتحول الأمة العربية، التي بهرت العالم بعظمتها وقدرتها على لمَ شعوب الأرض تحت راية واحدة سادها الإسلام، ووصلت رسالتها إلى الناس جميعاً على اختلاف دياناتهم وعقائدهم وانتماءاتهم القومية دونما تفرقة، شريطة أن يكونوا تحت لواء التقوى والألفة والمحبة والعمل الصالح، إلى مركز للفتن القومية والمذهبية التي بثها الشعوبيون أثناء تغلغلهم في بنيان الدولة العربية العظمى، فكانوا سبباً في انهيار هذا الصرح العظيم، وظهور التيارات الدينية المتناحرة تحت سماء وضمن محيط الأمة الإسلامية
فبدأت هذه الأمة العظيمة تتحول رويداً رويداً إلى أمم صغيرة تحكمها شعوب استفادت من تراجع النفوذ العربي فيها، ليكون حلم كل واحدة من هذه الأمم أن تقيم إمبراطورية مماثلة لما أقامه العرب، لكن شتان بين هذا وذاك، فالعرب أقاموا أمتهم بلسان دينهم السمح الذي شغف القلوب وحرك العقول بنداءاته الانسانية العاقلة، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، آية 2 من سورة يوسف، ودين العلم والحكمة العربية، أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ، آية 37 من سورة الرعد، وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا، آية 113 من سورة طه
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، آية 28 من سورة الزمر، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، آية 3 من سورة فصلت، وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، آية 7 من سورة الشورى، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، آية 3 من سورة الزخرف، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ، آية 12 من سورة الأحقاف
لكن الشعوب الأخرى حاولت وعملت لإسكات هذا اللسان العربي الحكيم، وحولت الدين إلى وسيلة للحكم والتسلط، فكانت الفتن المتلاحقة سمة هذه المراحل المدمرة للمجتمع الإسلامي المنهار نتيجة تخرب العنصرين الأساسيين لهذه الحضارة الناشئة وهما الدين الإلهي السمح، واللغة العربية التي أنزل بها هذا الدين، فلسان الحق قد صمت، ودين الله الذي أرسله للعالمين أخذ يتحول إلى مفاهيم دنيوية تحرض الناس بعضهم على بعض، وتزيد من تعصبهم المذهبي والطائفي، وعلى الرغم من محاولات الجميع إنقاذ هذه الأمة التي جمعها العرب تحت لواء دين عظيم، فشلوا جميعاً في محاولاتهم تلك لأنهم أهملوا عامل اللغة ولسان العرب الحكيم الذي كان حاسماً في فهم الدين ودعائمه الأساسية التي تقوم على الانفتاح، وتقبل الآخر، والتواصل، والعدالة الاجتماعية
إضافة إلى التعاضد، والتعاون، ليفقد المجتمع حجة البيان التي وجد فيها الرسول الكريم سحراً أخاذاً للعقول والقلوب (إن في البيان لسحرا)، فتبدد حلم هذه الشعوب، وخسر العالم فرصة التعرف على نمط محدث من الحضارة يعيش فيه الناس بمعتقداتهم ودياناتهم وقومياتهم المختلفة سواسية كأسنان المشط، لايفرقهم سوى عملهم الصالح، وخدمتهم لأمتهم، ولتتوالى الكوارث على هذه الأمة واحدة تلو الأخرى، فتظهر ممالك وامبراطوريات مختلفة حققت أحلاماً كبيرة في السطوة والانتشار، لكنها فقدت عظمة الرسالة التي حملها العرب في امبراطوريتهم إلى العالم، إلى أن بدؤوا بعد الاستقلال في بدايات القرن الماضي بمحاولة إعادة مجدهم الغابر من خلال مشروعهم النهضوي العربي، فكانت لهم قوى الشرق والغرب بالمرصاد، وعادت بهم إلى تاريخ الفتن والاضطرابات، ليتحولوا من جديد إلى ممالك صغيرة لاحول لها ولاقوة، ويأفل نجمهم الصاعد قبل ظهوره، ويفقد العرب فرصتهم في أن يكونوا أمة قادرة على الأقل على مجاراة الأمم الأخرى في العالم المتحضر.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews