لقد تمزقت تركيا بفعل محاولة الانقلاب الأخيرة وعمليات التطهير التي تلتها .وأصبح الجيش التركي، الذي كان يُعتبر لفترة طويلة العمود الفقري للدولة،في حالة من الاضطراب بعد أن تم اعتقال أو طرد لنحو 40 في المائة من كبار الضباط والقـادة من الخدمة.ويُشتبه في هؤلاء بأنهم من قام بالانقلاب الفاشل يومي 15ـــ16 تموز الذي خلف ورائه246 قتيلاً على الأقل، ودماراً في مبنى البرلمان ومقرات الأمن المختلفة ، ومحاولة كادت أن تنجح لقتل أو اعتقال الرئيس أردوغان.
ورداً على ذلك ، يقوم أردوغان وحكومته بعمليات تطهير تشمل الجميع من الجنود والشرطة والمعلمين والقضاة والاعلاميين الذين لهم صلة بأي طريقة كانت بحركة رجل الدين فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والمتهم بتنظيم محاولة الانقلاب.ومن بين وسائل الإعلام التي أغلقت في الأيام القليلة الماضية نجد 45 صحيفة ، و16 محطة تلفزيونية إحداها للأطفال ، و23 محطة إذاعية. وقام الأتراك ، خشية الاتهام بالتورط في المؤامرة ، بالتخلص على عجل من كتب ومنشورات غولن بإلقائها في الأنهار أو بوضعها في حاويات القمامة.
لقد بدت تركيا منذ خمس سنوات خلت البلد الأكثر استقراراً ونجاحاً في الشرق الأوسط . مثال يُحتذى ربما أحب جيرانها أن يتبعوه. ولكن عوضاً من أن تصبح العراق وسورية مثل تركيا، فقد اصبحت تركيا مثلهما بشكل متزايد من حيث الانقسام السياسي والعرقي والطائفي.واليوم تعززت سلطة أردوغان الشخصية لشجاعته وقوته في هزيمة الانقلابين وإزالة العقبات المتبقية أمام حكمه. ولكن كانت محاولة الانقلاب في نفس الوقت علامة على أن تركيا ، التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة مع جيش قوي يبلغ تعداده 600 ألف جندي ،أصبحت أكثر ضعفاً وأكثر اضطرابا ًمن أي وقت مضى .
وسيكون قادتها مشغولين طيلة الوقت في المستقبل القريب في عمليات تطهير داخلي وتحديد الولاءات . ويجري كل هذا في وقت تواجه فيه تركيا ضغوط على عدة جبهات، ولا سيما الحرب مع المتمردين الأكراد في جنوب شرق البلاد ، وهجمات داعش الإرهابية ، والعزلة الدبلوماسية الناجمة عـن تورط تركيا الكارثي في الحرب في سورية .
وتُعتبر زعزعة استقرار تركيا بمثابة خبر جيدل داعش لأن أجهزة الأمن التركية، والتي لم تقم يوماً بمطاردة الجهاديين السلفيين بشكل حثيث ، سوف تكرس معظم جهودها لمطاردة أتباع غولن . وسوف تستفيد داعش وغيرها من الحركات على غرار تنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة من الجو العام السائد حالياً في تركيا المناهض للولايات المتحدة حيث يعتقد معظم الأتراك أن الولايات المتحدة دعمت محاولة الانقلاب.
ودرجت العادة في الفترة السابقة النظر إلى الجيش، داخل وخارج البلاد ، على أنه ضمانة لاستقرار تركيا. ولكن الانقلاب الفاشل شهد دمار هـذا الجيش بطريقة سيكون بعدها من الصعب جداً إصلاحه .فما لا يقل عن 149من مجموع 358 من الجنرال اتتم اعتقالهم أو طردهم من الخدمة بشكل غير مشرف .ومن بين المعتقلين قائد الجيش الذي كان يقاتل التمرد الكردي في جنوب شرق تركيا ورئيس الأركان السابق للقوات الجوية.
في الحقيقة تطلب الأمر بالنسبة للكثير من الأتراك فترة من الوقت لكي يدركوا خطورة ما حدث. وقد أتضح لاحقاً أن محاولة الانقلاب لم تكن فقط مجرد عمل زمرة صغيرة ساخطة من الضباط داخل الجيش . بل كانفي الواقع نتاج مؤامرة واسعة للسيطرة على الدولة التركية كانت تتشكل طيلة عقود، وربما كان من الممكن أن تنجح هـذه المؤامرة إلى حد بعيد .وقد أعتقل المتآمرون في غمرة الانقلاب رئيس أركان الجيش وقادة القوات الجوية والبرية والبحرية . وكانوا قادرين على القيام بذلك من خلال تواطؤ الحراس والمساعدين والموظفين الموالين الذين شغلوا مناصب حساسة.
وقد اشتكى وزير الداخلية من أنه لم يعرف شيئاً عن محاولة الانقلاب حتى مرحلة متأخرة جداً لأن جهاز المخابرات الذي يتبع له كان يُديره أنصار الانقلاب.وأعطى أردوغان رواية شبه مضحكة حول كيفية بدء معرفتهبوقوع حدث ما غير عادي وذلك بين الساعة الرابعة والرابعة والنصف فجراً في يوم محاولة الانقلابعندما أخبره صهره بأنه رأى جنود يغلقون الشوارع في اسطنبول. وكيف أمضى بعد ذلك أربع ساعات وهو يحاول عن عبث الاتصال برئيس وكالة الاستخبارات الوطنية، ورئيس هيئة الاركان ، ورئيس الوزراء، بدون أن يتمكن من ايجاد أياً منهم . ويبدو أن أردوغان هرب من الفندق الذي كان يقضي فيه عطلته على بحر إيجة قبل 45 دقيقة من وصول مجموعة من جنود النخبة مع أوامر بالقبض عليه أو قتله.
وهناك شكوك ضئيلة جداً أن أتباع فتح الله غولن كانوا وراء محاولة الانقلاب على الرغم من نفيه المتكرر. يقول قدري غورسيل ، المعروف بانتقاده للحكومة ، "ليس لدي أي شك في أن العقل المدبر والعمود الفقري للانقلاب كانوا من أتباع غولن" . ويُضيف أنه دُهش من درجة قدرة أتباع غولن على التغلغل في صفوف الجيش والقضاء والخدمة المدنية. وأن أقرب تشبيه للأحداث الأخيرة، كما يقول، هو ما جاء في الفيلم الشهير" غـزو خاطفي الأجساد "في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، والذي يعرض كائنات فضائية تسيطر على مدينة أمريكية من دون أن يلاحظ ذلك أحد حتى كاد أنيفوت الأوان .) يعتبر الفيلم إحدى نماذج أفلام الخيال العلمي ، وهو يرمز لفوبيا تغلغل الشيوعية في المجتمع الأمريكي ـــ المترجـم ) .
لقد كانت محاولة الانقلاب غير متوقعة على الإطلاق وغير مسبوقة حتى أن الكثيرين من الأتراك باتوا اليوم يسألون عن مستقبلهم، وعن مستقبل بلادهم ـــ أسئلة لا توجد عليها إجابات واضحة. وهل سوف يستغل أردوغان الفرصة التي أتاحتها محاولة الانقلاب لتشويه صورة جميع المعارضين وليسفقط أتباع غولن كإرهابيين ؟ فقد تم لغاية الآن اعتقال حوالي 15 ألف شخص من بينهم 10 آلاف من الجيش . كما وتم حل الحرس الجمهوري. وأقيل حوالي ثلث العاملين في القضاء .وكان لأكثر الصحفيين ووسائل الإعلام المستهدفة صلة بطريقة أو بأخرى بأتباع غولن، ولكن قليلين يعتقدون أن تضييق الخناق على المعارضة سوف ينتهي عند هـذا الحد.
ويتوقع أحد المفكرين في اسطنبول ، والذي لا يريد نشر اسمه على غرار العديد ممن قابلهم كاتب المقال ، أن تكون " شهوة أردوغان للسلطة بشكل عام أقوى من الميل لضبط النفس في خنق المعارضة " . فعندما نشرت مجلة ساخرة محدودة التوزيع في الأسبوع الماضي رسماً كاريكاتوريا ينتقد بشكل معتدل الحكومة ، توجهت الشرطة من متجر إلى متجر لمصادرة أعداد المجلة .
ولغاية الآن ، يستفيد أردوغان من تضامن داخلي محدود ضد المتآمرين. والكثير من الأتراك (وليس فقط أنصارأردوغان ) ينتقدون الحكومات ووسائل الاعلام الاجنبية لإصدارها إدانات شكلية ضد محاولة الانقلاب قبل أن تسارع في مطالبة أردوغان بضبط النفس في عملية التطهير. ويشيرون إلى أنه لو نجح الانقلاب ، لكانت تركيا قد واجهت ديكتاتورية عسكرية كاملة أو حرباً أهلية، أو كليهما. وقال أردوغان في مقابلة صحفية أن الزعماء الاجانب الذين يشيرون عليه الآن بعدم المبالغة في عملية التطهير كانوا سيرقصوا من الفرح لو كان قد قتل على يد المتآمرين. ( يرى روبرت فيسك ، في مقالة نشرتها الانديبندنت بتاريخ 16 تموز الجاري ،أن تركيا باتت اليوم في انتظار انقلاب آخر ناجح أو حرب أهلية ـــ المترجـم ) .
تقول صبحية سنيوجل، مديرة مركز بحوث للدراسات السياسية والديمقراطية في اسطنبول، أن ليلة محاولة الانقلاب"كانت أسوأ ليلة في حياتي". واشتكت من أن المعلقين الأجانب لم يأخذوا بعين الاعتبار في تقاريرهم حقيقة بأن "هـذه كانت معركة بين حكومة منتخبة ديمقراطياً وبين انقلاب عسكري".
وقالت إنها شاركت في إعداد تقرير حول تقارير إعلامية أجنبية منحازة معادية لأردوغان ، وناقدة فقط بشكل خفيف للانقلابين. واقتبست ، على سبيل المثال ،بوست لمراسل محطةMSNBC ، في غمرة محاولة الانقلاب، يقول فيه أن "مصدر عسكري أمريكي يصرح لـمحطة NBCالإخبارية أن طائرة أردوغان قد رُفض السماح لها بالهبوط في اسطنبول، وأن هناك تقارير تشير إلى أنه يسعى لطلب حق اللجوء السياسي في ألمانيا ".
وترى سنيوجل أن تركيا منقسمة بشدة على نفسها بين أولئك الذين يقدسون أردوغانوبين أولئك الذين يكرهونه. وهي تقول أن "هناك قسمين في المجتمع التركي يعيشا نجنباً إلى جنب لكن ليس لديهما اتصال مع بعضهما البعض".وعلى الرغم من ذلك، فمن الصعب العثور على أي شخص ، على اليسار أو على اليمين ،لا يظنبأن الولايات المتحدةمتورطة على مستوى ما في محاولة الانقلاب. ربما يكون أردوغان نفسه مقتنع بذلك على الرغم من نفي الولايات المتحدة، وهذا سيؤثر بالتأكيد على سياسته الخارجية في المستقبل.
وقال أحد المراقبين "إن الدعم الشكلي الذي حصل عليه أردوغان من الدول الغربية أثناء وبعد محاولة الانقلاب مباشرة تكشف عزلته الدولية" .وسوف يغادر يوم 9 آب القادمللقاء بوتين ، على الرغم من أنه من المشكوك فيه إذا كان قيام تحالف بين تركيا وروسيا وإيران سيكون في الحقيقة بديل لعضوية تركيا طويلة الأمد في حلف الناتـو .
ويُمكن لأردوغان أن يدعي أن البديل عنه هـو مجموعة ذو عقلية دموية من جنرالات الجيش الذين لم يُظهروا أي ضبط للنفس في قتل المدنيين وقصف البرلمان. ولكن قوة وسمعة الدولة التركية قد تضررت بسبب الكشف عن الدرجة التي وصل إليها التغلغل لأفراد منظمة سرية بشكل منهجي منذ الثمانينيات في مؤسسات الدولة.
وكان يتم تزويد المرشحين من أتباع غولن لوظائف في وزارة الخارجية بإجابات الأسئلة قبل دخول الامتحانات بغض النظر عن قدراتهم الشخصية . ووفق وزير الخارجية ،فقد دخل السلك الدبلوماسي ـــ الذي كان يحظى في وقت من الأوقات بتقدير كبير على الصعيد الدولي ــــ دفعة كبيرة من الدبلوماسيين الذين لا يتقنون أي لغة أجنبية. وكما يقول أحد المعلقين "إن الدولة تنهار" ، ولكنه يضيف أن الكثير يتوقف على ما سوف يقوم به أردوغان بعد ذلك.
فأردوغان في الماضي أظهر واقعية، وضبطاً للنفس ، وسماحة روحانية ، يرافقها شهية لا تنقطع للصراع السياسي وللمزيد من السلطة. وقد يكون لقائه في الأسبوع الماضي مع قادة الأحزاب الأخرى، مع ملاحظة استثناء الأكراد، علامة على أنه سيضطر للتحالف مع العلمانيين. وسوف يحتاج إلى تعويض الضباط المطرودين من الخدمة من أتباع غولن، والكثير من الآخرين العلمانيين ضحايا حملات التطهير السابقة التي كان يقوم بها أتباع غولن .واليوم تدفع تركيا ثمناً باهظا لتحالفات أردوغان الماضيةالمناسبة وغير المناسبة .وينبغي عليه الآن لا محالة أن يُواجه تبعات أعماله الخاطئة السابقة .
وكان أتباع غولن قادرين على التغلغل في صفوف الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى بهذه السهولة لأنهم كانوا متحالفين بشكل وثيق خلال الفترة 2002 ــ 2013 مع حزب أردوغان ،حزب العدالة والتنمية ،في معارضة العلمانيين. وكانت داعش قادرة ، حتى وقت قريب، على إقامة شبكة من الخلايا في تركيا، لأن قوات الأمن التركية غضت الطرف عن الجهاديين السلفيين الذين استخدموا تركيا كقاعدة خلفية للحرب في سورية . ويُقال أن أردوغان استأنف المواجهة والحرب مع حزب العمال الكردستاني كحيلة انتخابية لحشد الدعم الداخلي بعد فشله في الفوز في الانتخابات العامة التي جرت في 7 حزيران من العام الماضي.
وإذا كان أردوغان يزداد قوة ومنعة وقت الأزمة والمواجهة حيث يشكل الانقلاب الفاشل الأخير أحدث مثال على ذلك، فإن وجود أزمة دائمة سوف يُضعف بلا شك ويُزعزع استقرار تركيا في وقت تدور فيه الحرب في بقية أنحاءا لمنطقة. صحيفة الانديبندنت . الجمعة 29ــ7ــ2016 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرابط :http://www.independent.co.uk/voices/turkey-coup-attempt-erdogan-isis-middle-east-weak-and-unstable-a7162236.html