يبدو أن وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى قد نسيت أن تحقيقات
الأمم المتحدة الأولية التي اندفعت لإثارة الشبهات حول مسؤولين سوريين وتحميلهم
تهمة ارتكاب جريمة الحريري، قد انهارت وسط الاعترافات الزائفة والشهادات الزور التي
تم دفع ثمنها مسبقاً.
لقد تم بالفعل ارتكاب جريمة نكراء في قلب الشرق الأوسط وراح
ضحيتها أناس أبرياء. وربما يكون قد تم انتهاك القانون الدولي. والأمم المتحدة مصممة
على كشف النقاب عن المجرمين وجلبهم إلى منصة العدالة.
ومن أجل ذلك سيتم تأسيس محكمة دولية استثنائية بالتعاون مع
السلطات من أجل تخمين الجرم ووضع العقوبات.
ومع انبلاج الستارة عن مسرح هذه الجريمة يظهر البطلان الأساسيان
المدافعان عن القانون الدولي والسلام العالمي وهما جورج دبليو بوش وتوني بلير،
اللذان أدى تصميمهما إلى تامين موافقة الأمم المتحدة على تأسيس محكمة دولية خاصة
لتحديد ومعاقبة الجناة في جريمة 14 آذار 2005 التي أودت بحياة رئيس الوزراء
اللبناني الأسبق رفيق الحريري مع اثنين وعشرين غيره.
ولكن على الرغم من أنه من الجدير فعلاً العثور على قتلة الحريري
ومعاقبتهم، إلا أن الرسالة الأشمل التي تحملها محكمة الأمم المتحدة الدولية تلك هي
أن من يتحمل حقاً ويهيمن فعلاً على وصايا العلاقات الدولية هو من يقع بيده الحق.
ورغم أن الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني ملوثة أيديهم
بدماء نحو نصف مليون عراقي ومسؤولين عن جرائم تمخضت عن غزو غير شرعي ومتمرد على
ميثاق الأمم المتحدة، ليس هناك من أحد متنفذ في السلطة سيتهور ويقترح سوق بوش وبلير
إلى محكمة دولية لمقاضاتهما على تلك الجرائم التي اقترفاها.
إن كلاً من بوش وبلير يترأسان حكومات دول عظمى تمتلك ترسانات من
الأسلحة النووية ويمتلكان حق الفيتو في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وأياً تكن
الحقائق التي تعكس انتهاكات بوش وبلير للقانون الدولي، بغض النظر عن كمية الدماء
التي تسببا بإراقتها، إلا أنهما ما يزالا يتمتعان بحصانة كافية أمام القانون
الدولي، وبعيدان تماماً عن يد العدالة.
أو لنستعن بالمزحة التي يطلقها بوش عندما يسأل عن ما إذا كانت
أعماله تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي، يجيب قائلاً "قانون دولي؟" أفضل الاتصال
بالمحامي الخاص بي".
ورغم أن المذابح التي أشعلها التحالف الأمريكي البريطاني ما
تزال متأججة في العراق، الا أن المهندسين المعماريين الذين قاموا بتصميم هذه
الكارثة الإنسانية سيظهرون ثانية كمدافعين مليئين بالمبادئ عن السلام والعدالة في
لبنان. والى اليوم تبدو وسائل الإعلام الأمريكية عاجزة عن إلقاء الضوء على
المفارقات الواضحة بين كلتا القضيتين والمقارنة بينهما.
ويبدو أن وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى قد نسيت أن تحقيقات
الأمم المتحدة الأولية التي اندفعت لإثارة الشبهات حول مسؤولين سوريين وتحميلهم
تهمة ارتكاب جريمة الحريري، قد انهارت وسط الاعترافات الزائفة والشهادات الزور التي
دفع ثمنها. فقد استقال المحقق الألماني الأصلي ديتليف ميليس والأمم المتحدة تبرأت
تماماً من عمله.
واليوم أعلن سيرج براميرتز الذي خلف ميليس في التحقيق، عن قيامه
بإجراء تحريات واسعة حول الدوافع والمشتبه بهم المحتملين بما فيهم منافسي الحريري
في سوق الأعمال. ومنذ ذلك الوقت وبراميرتز يواصل عمله بحرص وحرفية مفرطين، محتفظاً
بالأدلة التي توصل إليها لنفسه.
ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار سلوك محقق الأمم المتحدة الأول
سيكون مع كل من سوريا وحلفائها في لبنان أسبابهم الكافية للشك بأن هذه المحكمة
الدولية ليست سوى بيدق تحركه القوى الأمريكية وليست هيئة نزيهة تسعى لتحقيق
العدالة.
لكن باعتبارها دولة منبوذة في نظر إدارة بوش، تعلم سوريا أنها
لا تستطع التعويل على فرضيات المعاملة المتوازنة والبريئة من قبل وسائل الإعلام
الغربية.
ويبدو أننا نستخدم أسلوباً مختلفاً لإعادة لعب لعبة قضية أسلحة
التدمير الشامل التي وجهت ضد عراق صدام حسين عام 2002-2003. وتماماً كما تم اعتبار
كل خطوة عراقية على أنها إثم، سيتم اليوم تبني أي فتات من الأدلة ضد سوريا بينما
إهمال جميع الحقائق المعاكسة.
وعلى الرغم من أن سوريا- أو على الأقل الهيئات الأمنية الفعالة
لديها- ستبقى تتمتع بسلطتها على أي مشتبه به يرد اسمه على اللائحة، إلا أن اندفاع
الأمم المتحدة الأولي والمعالجة المجحفة التي ستقوم بها وسائل الإعلام الغربية لتلك
الاتهامات تطرح بروباغاندا مليئة بالحظ لإدارة بوش المتحمسة للنيل من دمشق.
إن وسائل الإعلام الأمريكية لم تسعى أبداً إلى تنبيه الشعب
الأمريكي إلى أن الانطباع الواضح الذي تشكل لديهم عام 2005 والذي يشير بوضوح إلى
أن الحكومة السورية هي من خطط لتلك العملية الإرهابية في بيروت، لم يعد موجوداً
أبداً.
أن هذا الفشل الصحفي الأمريكي في تبني موقف عادل تجاه النظام
السوري يعود إلى الخوف على الحياة العملية للصحفيين اللذين قد توقعوا بأن نشر
مقالات متوازنة في مثل هذه القضايا سيمنحهم لقب "المدافعين عن سوريا". وهذه
المجازفة ستزداد خطراً في حال تبين ان بعض مسؤولي الأمن السوريين متورطين في
الجريمة.
ومن الجدير بالذكر أن الصحفيين واجهوا مثل هذه المخاوف خلال
فترة التي سبقت حرب العراق، عندما كانت أي شكوك تظهر بشأن ادعاءات بوش بوجود أسلحة
دمار شامل تثير غضب العديد من القرّاء، تشتعل الحرب بين السياسيين وحتى بين محرري
الأخبار.
ويرى الصحفيين المهتمين بالحفاظ على مهنتهم أن أذكى إستراتيجية
يمكن تبنيها هي تنشيط ادعاءات وجود أسلحة تدمير شامل في العراق- حتى لو كانت
المعلومات صادرة عن مصادر مشكوك بها أو ذات مصالح شخصية – وتجاهل أو إهمال الأدلة
المعاكسة لذلك. فالمخاطرة الكبرى بكتابة تقرير صحفي يتضمن تشكيكاً بتلك الادعاءات
قد يوقع الصحفي في ورطة كبرى في حال تبين فعلاً أن العراق يخفي أسلحة تدمير شامل.
ولكن وبعد مرور أربعة أعوام من الحرب الدامية في العراق- والكشف
عن عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق- قد يتوقع الأمريكيون من وسائل الإعلام
الكبرى عرض القليل من الشكوك وإظهار بعض من الحرص خلال جولة أخرى من المزاعم الغير
مثبتة والموجهة ضد دولة أخرى في الشرق الأوسط من قبل جورج بوش.
وربما يسعد بعض الأمريكيين بقراءة أنباء في الواشنطن بوست او
النيويورك تايمز حول ما إذا كان بوش وبلير وبعض مستشاريهم المرموقين يجب أن يرغموا
على الوقوف او المثول أمام محكمة أمم متحدة تملك سلطة للتحقق حول ما إذا كانوا قد
انتهكوا القانون الدولي ويستحقون العقاب أم لا.
ولكن هذا يتطلب عالماً يطبق فيه العدل على جميع مسؤولي الحكومات
الذين ينتهكون المواثيق الهامة للسلوك الدولي وليس فقط على مسؤولي الحكومات
الضعيفة.
بقلم روبرت باري*- ميدل ايست أون لاين
ترجمة هدى شبطا - سيريانيوز
*روبرت باري عمل لفترة طويلة مع وكالة الاسوشيايتد برس ومجلة
النيوز وييك. وألّف العديد من الكتب كان آخرها "الكتمان والامتياز: صعود سلالة بوش
الحاكمة من ووترغيت إلى العراق".