لمّا يُعاني أحد الوالدين من حالة الاكتئاب فإن ألاطفال سيكونون أكثر احتياجاً إلى
نوعية مُكلفة من العناية الصحية، خاصة تلك التي تتطلبها العناية الطبية بهؤلاء
الأطفال عند زياراتهم لأقسام الإسعاف. كما أن فرصهم ستكون أقل احتمالاً في نيل
رعاية طبية وقائية،
وهو أهم
أنواع الرعاية الصحية التي يتم تقديمها عادة للأطفال على وجه الخصوص. هذا ما خلص
إليه مؤخراً الباحثون من جامعة كولورادو بالولايات المتحدة.
وتمثل نتائج
دراستهم الأخيرة دليلا ملموسا على تأثر صحة الأطفال بإصابة أحد الآباء أو الأمهات
بحالة الاكتئاب النفسي المرضي. ما يُوجب التنبه إليها بعمق من قبلهم وكذلك من قبل
الأطباء الذين يُتابعون أطفال مرضى الاكتئاب هؤلاء. لأنه تعرض جانباً من التأثيرات
العائلية لإصابة أحد الوالدين بالاكتئاب، كنوع مما يُمكن وصفه بـ«الكلفة الخفية»،
والتي قلما يتم التنبه إلى وجودها أو الالتفات إلى تداعياتها على بقية أفراد
الأسرة.
ووفق ما تم
نشره في عدد إبريل (نيسان) من مجلة طب الأطفال الأميركية، فإن الدكتورة ماريون سيلس
وزملاءها من الباحثين من مركز العلوم الصحية التابع لجامعة كولورادو بدينفر فى
ولاية كولورادو الأميركية، قاموا بمراجعة المعلومات المتعلقة بحوالي 70 ألف طفل،
ممن تتراوح مراحل أعمارهم بين رضيع وطفل ومُراهق، فيما بين عام 1997 و2002. وتبين
لهم أن الأطفال الذين يُعاني أحد والديهم، على الأقل، من حالة الاكتئاب، فإنهم أكثر
عرضة للتعرض للازمات الصحية المفاجئة التي تستدعي توجههم إلى أقسام الإسعاف لتلقي
المعالجات الطبية اللازمة. كما تبين لهم أن المراهقين منهم على وجه الخصوص أقل نيلا
لخدمات عيادات الكشف الدوري على الصحة ولخدمات الوقاية الطبية التي تُقدم من
خلالها.
ويأمل
الباحثون من نشر هذه النتائج المثيرة للاهتمام، والتي تم التوصل إليها بالبحث
الدقيق، أن يكون الأمر محفزاً إلى المزيد من الدراسة للأسباب التي تجعل هؤلاء
الأطفال عُرضة لمثل هذا الإهمال الصحي من قبل الوالدين، والذي يبدو جلياً في تكرار
حاجتهم إلى زيارة أقسام الإسعاف بشكل متكرر. والمعلوم أن أسباب حاجة الطفل إلى
تكرار زيارة قسم الإسعاف، نتيجة لقصور في تعامل واهتمام الوالدين بهم، تنحصر في
الغالب بأحد ثلاثة أسباب. وهي إما أن الطفل مُصاب بأحد الأمراض المزمنة التي لم
يتمكن الأطباء من السيطرة عليها بالعلاجات نظراً لعدم حضور الأطفال إلى العيادات
الطبية العادية لنيل الرعاية الطبية فيها أو من خلالها، أي إهمال الوالدين في
العناية بحالة الطفل المرضية بالأصل. أو أن هناك إهمالا من الوالدين في الاهتمام
بتطبيق وسائل معالجة حالاتهم المزمنة التي أرشدهم الأطباء إليها. أو أن ثمة إهمال
من قبل الوالدين في العناية بالأطفال بشكل عام، ما يجعلهم عُرضة لإصابات الحوادث
المنزلية أو غير المنزلية.
ولأن القضية
ليست شكلية أو جانبية، بل محورية في مدى النجاح في معالجة حالات الأطفال المرضية
وتهيئة نيلهم لأسباب ووسائل الوقاية من الأمراض، فإن بعض الخبراء الطبيين في معالجة
حالات الأطفال يرى بأن على أطباء الأطفال أن يستعلموا عن حالة الوالدين النفسية
والبدنية، خاصة حول مدى إصابتهم بأحد الأمراض النفسية. وذلك كي يُكيفوا معالجتهم
واهتمامهم بالأطفال المرضى بالأخذ بعين الاعتبار احتمالات مستوى عناية آبائهم
وأمهاتهم بهم. والواقع أن نتائج هذه الدراسة تدعم هذا التوجه في التفكير المنطقي
والواقعي لجهة إعطاء مزيد من القوة لدرجة العناية بصحة الأطفال. كما أن واقع اهتمام
أطباء الأطفال بالاستعلام عن هذه الجوانب في الوالدين يُؤكد أنه اهتمام ذو مستوى
متدن. لأنه، ووفق ما تُؤكده الدكتورة سيليس، فإن 8% فقط من أطباء الأطفال من يُكلف
نفسه عناء السؤال عن حالة الوالدين النفسية، وعن الاكتئاب على وجه الخصوص. في حين
أنها تُؤكد على أن تكرار زيارة الطفل للعيادة بصحبة أحد الوالدين تُمثل فرصة ذهبية
للاستعلام المباشر عن هذه الأمور أو حتى مجرد ملاحظة علاماتها على أحدهما، مثل
اكتئاب ما بعد الولادة الذي يُصيب بعضاً من الأمهات.
كما طرح
الباحثون أسئلة أخرى، مما تحتاج إلى إجابات، ضمن عرضهم دواعي توسيع بحث اكتئاب
الآباء والأمهات. ومفادها هو هل المسح الإحصائي الواسع لمعرفة حالات الاكتئاب مثلا
بين الآباء والأمهات سيُسهم في حث هؤلاء المُصابين به على طلب المعالجة الطبية لها؟
وهل تحقيق ذلك سيكون ذا أثر إيجابي ملموس على حالة أطفالهم الصحية.
وهاتان
النقطتان تحتاجان إلى بحث في الحقيقة. لأن اللوم ربما ليس على الآباء أو الأمهات
المصابين بالاكتئاب، وكذلك ليس اللوم على أحد الزوجين في عدم اهتمامه بالأطفال أو
بشريك العمر حين إصابته بالاكتئاب. بمعنى أن تحقيق عناية أفضل بصحة الأطفال قد لا
يتم فقط من خلال معالجة اكتئاب أحد الوالدين ولا فقط عبر حث الشريك الآخر السليم
على الاعتناء بشكل أكبر بالأسرة كلها، بل قد تطلب برامج رعاية طبية أشمل للأسرة
كلها وفق ترتيب أكثر واقعية في التعامل مع المشكلة.
وفي حالة ما
يدور البحث الجديد حوله، فإن من السهل على الأطباء تشخيص سبب كثرة زيارة الأطفال
لأقسام الإسعاف وأيضاً سبب تدني تلقي الأطفال لخدمات الوقاية الصحية، بأن أحد
الوالدين يُعاني من اكتئاب. لكن المهم بعد هذا هو الإجابة عن كيفية تحقيق عناية
أفضل بالأطفال والتغلب على تداعيات إصابة أحد الوالدين بالاكتئاب. وإذا ما قلنا إن
اللوم كله على الأسرة، أي الوالدين فإننا كأطباء في الحقيقة لا نُعطي حلا ولا نرسم
خطوط تحقيقه، ما لم نكن متأكدين من ذلك وفق نتائج دراسة تتبعت الأمر وأثبتت النجاح
من خلاله. وهذا التأكد من ناحية أفضل الحلول لهذه المشكلة، هو ما يجب دراسته وهو ما
تنادي الباحثة به.
المصدر : الشرق الاوسط