ثلاث سيناريوهات لتطور الأزمة السورية وختامها (2-3)

في المقال السابق أوضحنا أن أفضّل السيناريوهات لمستقبل سوريا: دولة مدنيّة ديمقراطية، لامذهبية ولا دينية، ولا تخضع لهيمنة عسكرية،....هو أكثر السيناريوهات المحتملة ضعفاً، للأسف، لأسباب أوضحناها في حينها.

أما في هذا المقال فكنا قرّرنا أن نستعرض بالتفصيل احتمالات سيناريو طُرح بقوة في أوساط مراقبين ومحللين، وظهرت تلميحات عنه في تسريبات إعلامية. وهو سيناريو "المحاصصة الطائفية" الذي يتمتّع باحتمالية قائمة للحدوث، لكن وفق شروط، وتواجهه تعقيدات، والأبرز من كل ذلك، أنه لا يخدم المصلحة الوطنية الجامعة للسوريين.

لكننا لاحقاً ارتأينا أن من الأنسب، قبل الخوض في سيناريو "المحاصصة الطائفية"، أن نعرّج في مقال مخصّص على سيناريو تقسيم سوريا الذي حظي بالكثير من الاهتمام الإعلامي والبحثي، رغم أنه يتمتّع بنقاط ضعف تقترب به إلى حالة الاستحالة، مع التذكير أن جانب الاستحالة في عالم السياسة غير قائم، لكن القضية ترجيح واستبعاد.

يمكن لنا توضيح جملة نقاط تجعل سيناريو تقسيم سوريا مستبعداً للغاية:

بروباغندا "الرغبة الدولية في تقسيم سوريا"

بدايةً أقول أن الحديث عن رغبة دولية -غربية تحديداً- بقيام دويلات طائفية في سوريا، لا يتمتّع بأي سندٍ بحثي أو موضوعي، وعلى العكس من ذلك، فإن راجعنا تاريخ نشاطات الدول الكبرى في هذا المجال حيال سوريا، نجد أن فرنسا التي قسّمت سوريا بالفعل في عهد احتلالها لها، لاقت رفضاً بريطانياً- أمريكياً غير معلن لترسيخ هذا التقسيم، لينتهي الأمر بترجيح كفة القوى الوطنية المفاوضة لفرنسا والغرب بقرار من مجلس الأمن ألزم الفرنسيين بالانسحاب من سوريا، وتسليم السلطة للحكومة الوطنية القائمة حينها، والتي استوعبت الكثير من قيادات الطوائف التقليديين في صفوفها، ومن ثم استخدمت الحزم مع الساعيين للانفصال منهم، فكانت نهاية المشهد التقسيمي لسوريا في العام 1946 سريعة.

وفي مشهد تاريخي أقرب، كان تقرير بيكر – هاملتون الشهير العام 2006 قد أطلق رصاصة الرحمة الأمريكية على سيناريو تقسيم العراق إلى دويلات طائفية منفصلة تماماً.

التقرير الذي كُلّف معدّوه برسم خارطة طريق أمريكية للتعامل مع ورطة العم سام في العراق، رفض بصورة واضحة سيناريو التقسيم التام في العراق، محذّراً من مخاطر امتداد حالة التقسيم الطائفية إلى كامل خريطة المنطقة....

هنا قد يقول قائل: وهذا ما يريده الغرب!...نجيبه أنه على العكس مما يروّج له بعض المنظرين لغايات غير موضوعية، يعتقد معظم مراقبي الغرب أن قيام دويلات طائفية في جنوب العراق وفي الساحل السوري أو في جنوب سوريا، وكردية في شمال سوريا والعراق، سيؤدي إلى نشوء وسط إسلامي سنّي متطرف في باقي المناطق التي يمكن أن تتهاوى الإدارات المحلية فيها لصالح هيمنة قوى إسلامية ستزداد تطرفاً مع وجود أعداء طائفيين بجوارها، مما قد يخلق عملاقاً سنّياً في عمق سوريا ووسط العراق يمتد إلى شمال لبنان، وقد يشمل الأردن لاحقاً، مما سيشكّل في نهاية المطاف خطراً على الوجود الإسرائيلي، لأن هكذا كيان سيكون متجانساً داخلياً أكثر من الدول القائمة حالياً، والتي تتنوع مكوناتها، مما يشكّل أحد عوامل غناها وضعفها في نفس الوقت، وهذا التنوع الداخلي يمكن للغرب استغلاله بصورة أفضل بكثير مقارنةً بقيام دولة كبيرة متجانسة داخلياً، ويغلب عليها الطابع الإسلامي – السنّي. وقد احتوت الكثير من الكتابات الغربية تحذيرات من أن قيام دويلات طائفية في المنطقة سيعزّز التطرف الإسلامي، وسينعكس في نهاية المطاف سلباً على المصالح الغربية في المنطقة، وخاصة أمن إسرائيل.

في المقابل يبدو أن سيناريو "المحاصصة الطائفية" أضمن لمصالح الغرب والدول الإقليمية الفاعلة، للتأثير على الداخل السوري، على غرار المشهدين اللبناني والعراقي حالياً، وقد ظهرت الكثير من التصريحات والتسريبات لمسؤولين غربيين تؤكد ذلك، وهو ما سنفصّل فيه في المقال القادم، لكن خلاصة ما سبق تعني أن الغرب لا يرحّب بتقسيم سوريا على العكس من البروباغندا السائدة حالياً في أوساط الكثير من المحللين، من موالاة ومعارضة.

البعد الإقليمي - التركي

إلى جانب عدم رغبة الغرب في تقسيم سوريا، يمكن إضافة الرفض التركي الحاسم لهذا السيناريو، لما له من انعكاسات على العمق التركي الزاخر بأقليات له امتداداتها في سوريا أيضاً.

استراتيجية أوباما القائمة اليوم في الشرق الأوسط، والتي تعتمد قاعدة توكيل الحلفاء الإقليمين بإدارة الملفات الإقليمية المشتركة، لتخفيف الحمل الاستراتيجي والاقتصادي والعسكري عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل قضايا أخرى بالنسبة لها جانب الأولوية، وعلى رأسها الجانب الاقتصادي...هذه الاستراتيجية تقضي بأن تتولى تركيا وقطر والسعودية الملف السوري، بالشراكة مع واشنطن، مما يعني أن هذه الدول باتت شريكة في صنع القرار الأمريكي بخصوص هذا الملف، وخاصة تركيا التي تحتل ثقلاً كبيراً إقليمياً، يجعل واشنطن تقدّر أهمية الشراكة معها بصورة واضحة، وتركيا تعتبر تقسيم سوريا خطاً أحمر، مما يعني أن واشنطن ستراعي دون شك الخط العام للأتراك في هذه المسألة، وستأخذ بعين الاعتبار أن تركيا هي المنفذ اللوجستي الرئيس للتدخل في الشأن السوري بصورة مباشرة.

ضعف المقومات السياسية والأمنية والاقتصادية للدويلات المتخيّلة

لو تخيّلنا قيام دويلة علوية في الساحل السوري، أول ما سيخطر في بالنا، كيف سيتمكن الأسد من ضبط ولاء كامل الطائفة العلوية لصالحه، خاصة مع ما يعني ذلك من تهجير لأكثر من مليون ونصف المليون علوي منتشرين في كامل التراب السوري، ليخسرون أملاكهم وأشغالهم، ويعودون إلى ضيعهم التي لبعضهم فيها ملكيات أراضٍ متناهية في الصغر.

إلى جانب ذلك سيكون على هذه الدويلة أن تهجّر مئات آلاف السنّة الذين ما يزالون موجودين ضمن الحزام المتخيّل لهذه الدويلة، والأهم من ذلك أن على هذه الدويلة أن تعيش في محيط معادٍ لها تماماً. تركيا من الشمال، العمق السوري الذي سيكون على عداء شبه وجودي مع هذه الدويلة، وشمال لبنان الذي تغلب عليه غالبية سنيّة. وهذا الجانب من أبرز نقاط ضعف أية دولة.

إلى جانب البعد الاقتصادي، فهكذا دويلة ستفتقد إلى النفط، والغاز الذي يتم الحديث عنه في الساحل يحتاج على الأقل إلى خمس سنوات لبدء الاستثمار المُجدي، وستخسر تجارة الترانزيت المثمرة والتي تجعل موانئها البحرية مجدية اقتصادياً، بسبب المحيط المعادي لها، والأهم من ذلك أنها ستخصّص معظم ميزانيتها للصراع الدامي مع العمق السوري، الذي سيزداد تطرفاً، وسنجد فيه مئات الآلاف المستعدين للقتال ضد هذه الدويلة، ودول عديدة في الخليج مستعدة لتمويل هذا القتال.

أما على المقلب الكردي، فالأمر لا يختلف كثيراً، فالدويلة الكردية المتخيّلة ستنحسر في أقصى شمال شرق سوريا، في شريط حدودي لا يتمتّع بعمق جغرافي كافٍ، مما سيجعلها عرضة للاختراق الأمني والعسكري الدائم من العمق السوري من جانب، ومن الجانب التركي من جانب آخر....حالة الدويلة الكردية المتخيّلة من الناحية الجغرافية تجعلها دولة ميتة فعلياً، فاقتصارها على مناطق الغالبية الكردية الكبيرة سيجعلها كما قلنا شريط حدودي مستقل، لا يملك مقومات دولة من الناحية الجغرافية، أما إذا حاول منظّروها رسمها بصورة تشمل أجزاء واسعة من شمال شرق سوريا، كما يُخيّل للبعض، فهذا يعني أن هذه الدويلة ستدخل في حرب تهجير مع العرب الموجودين في تلك الأراضي، مما سيجعلها في حالة حرب دائمة مع العمق السوري ومع الجار التركي.

وفي هذا السياق يبدو أن مساعي حكومة كردستان العراق لتعزيز التفاهم مع تركيا بشأن النفوذ الذي تمتّع به الأولى حالياً في أوساط أكراد سوريا، أكبر مؤشر على أن فكرة قيام دويلة كردية في شمال شرق سوريا غير وارد في الحسابات الإقليمية، حتى منها الكردية في العراق.

إرادة المستقبل

لا بد ختاماً من التذكير مرة أخرى، أنه في عالم السياسة هناك سيناريوهات مرجّحة وسيناريوهات مستبعدة، بناء على الوقائع القائمة وتخيّل المسارات التي قد تتخذها في حالة تطورها، لكن ذلك لا ينفي أن عالم السياسة زاخر بالمفاجئات، فهو عالم إنساني بالأساس، خاضع لفعل الإنسان الذي قد يفاجئك بقراراته وأفعاله.

 وفي الوقت نفسه علينا أن ندرك أيضاً أن عالم السياسة، عالم إرادة، بمعنى آخر، قد تكون بعض السيناريوهات مرجّحة، لكنها لا تخدم المصلحة الجمعيّة للسوريين، على اختلاف أطيافهم، فهذا يعني أن الوعي والإرادة كفيلين بترجيح سيناريوهات أخرى سواها، فعالم السياسة، حسب الشعوب، إما أن يكون رد فعل، أو فعل وإرادة للمستقبل...وكثير من الشعوب في التاريخ غيّرت من مصائرها، بوعي وإرادة، مترافقين مع احترام للآخر الشريك في الوطن، بعيداً عن بروباغندا التكفير أو التعميم أو التخوين أو الولاء للفرد المستبدّ على أسس غريزية.

مواضيع ذات صلة:

- عقدة رأس النظام...ومصالح المنتمين لهَرَمِه...بقلم: إياد الجعفري