كأي مواطن سوري كان مدعواً ليشارك أخوة الأرض في العشاء ، في الرأي والاقتراح والبناء . راح يفكر ملياً كيف سيتحضر ، ماذا سيرتدي وكيف سيبدأ الحديث ، فالليلة بشارة زفاف لا يشبه الهطول ، ولأنه لم يرد أن يستنفذ قواه في كثرة الأفكار لألا تثنيه عن استحضار ما يفعم في حينه الحوار ، قرر أن يذهب عارياً ، ليس في ملابسه إنما فيما سيكون دوره عند أول خطوة .
صديقنا لم يكن يمانع في الذهاب عارياً حتى من
ملابسه ، فقد اعتاد حقبة عارية من الأخلاق ، لا تغطيها لغة ولا يحيا عليها معتقد ،
ولكنه وعلى أمل أن يخيط العشاء ثوباً ناصع البياض يخلد فيه إلى النوم بعد الإنهاك
الذي طال وطال ، ارتأى أن يضحي بعض الشيء .. فالحلم الكبير سيولد ويصبح حقيقة .
في طريقه إلى هناك ، تلمس حوضاً فارغاً وأخبره سراً أن الجميع سيعود للاعتناء به
كما زمان وسيقطفون من أعماقه أعرق ألوان الحب ، كيف لا ؟ ، وهو الذي عرف الحب يوماً
مضى ويأمل بأن يعرفوه صغاره أيضاً ، مشى إلى حائط مشية عسكر وطالبه برقصة تقاعد ،
لأنه سينصرف من عمله الشاق في مشاركة الجميع حياتهم السياسية ، قال راقصني فغداً
ستكتسي بأثوابك القديمة ، رقم هاتف مراهق وذكرى وعبارة عن عدم التبول هنا ، ألا
تشتاقهم مثلي ؟
من رصيف إلى آخر كان يعبر ، لا يكل ولا يتعب ، يشير ويخبر روحه عن بائع الفستق الذي
يركن هناك ، وما أن يصل بائع الغزل حتى يبدآن جدلهما اليومي حول ما يحبه الأطفال
أكثر ، ولا ينتهون إلا بحضور المجنون حسن كما يسمونه أهل الحي ، فيسرق امتعاضهما
ويملأ وجهيهما بضحكات عجائزية ويكسب هو كيسين مليئين بالفستق والغزل ممضياً بقية
اليوم في غناء أغنية أنا الشاطر حسن .
يملؤه الإيمان بأن نصف ساعة حقيقية تفصله عن ميعاد الحياة الغامرة ، ميعاد الحفلة ،
وأن القبر الذي اشتراه لنفسه لن يدفن فيه للسبب الذي أعتقده هو ، وكان قد اعتزم أن
يخبر أحجار قبره ذلك وهكذا فعل ، أردف على الجيرة السلام وأمنيات بالسكينة
والطمأنينة وأخبرهم أن بعضهم ماتوا بريئين من الاتهامات ، وبعضهم الآخر ماتوا لأنهم
لم يدركوا حب الحياة ، وأنهم الآن عليهم أن يكونوا موتى محبين وأنه وغيره سيعيشون
بعد قليل من أجلهم زهو الحياة .
قدماه تطرقان عتبة الرصيف ما قبل الأخير ، قبالة الباب الأبيض ، مشيداً لنفسه
إعجابه باللون فهو الغاية وهو السبيل ، أخذ نفساً عميقاً وتقدم في خط مستقيم للدخول
دون عودة ، لم تكن انتفاضات القلب واندثار التفاصيل من حوله تمنعانه من استمرارية
التقدم ، ولكن حصل أن القائم على تنظيم العشاء خصص بواباً ، ولعله يريد التأكد من
خلو الأخطاء تماماً .. هكذا أخبر نفسه معللاً سبب وجوده .
- أنا المواطن السوري إ
- أحمر بنجمتين ردف الباب الأيمن ، أخضر بثلاث ردف الباب الأيسر
- ولكن الباب أبيض
- أحمر بنجمتين على يسار الطاولة ، أخضر بثلاث على يمين الطاولة
- لما تبادلا ؟
- كي نكون ديمقراطيين
- ولكننا أبناء لأب واحد ، ما هكذا يكون
- لا يهم ، هكذا ديمقراطيتنا
- ولكنني
- ولكنك ماذا ؟ ماذا تريد ؟
- أريد باباً أبيضاً يجمع بين الجميع
تبادل البواب الحديث مع شخصين لبضع دقائق ، يبدو أن كل منهما نائب لردف من الباب ،
وعاد مسرعاً إلي يصرخ
- الديمقراطية ديمقراطية ولا يمكن للديمقراطية أن تكون غير ديمقراطية
- ها ؟
- وما أدراك أنت
- أدراني أنني وبعد هذا العمر الطويل ما عدت أعتبر نجومكم أوسمة وامتيازات ، وأن
ألوانكم الخضراء والحمراء ما عادت كنايات عن الجمال والإخاء ، أدراني أنني جئتكم
عارياً وأطالب الآن بعلمين منزوعي النجوم والألوان يحترمان
طلقتان سريعتان في الرأس ، التهمة : إساءة استخدام الديمقراطية ومحاولة عرقلتها
فيما بعد ، نقش المجنون حسن على قبره : عشاء سوري آخر على شرف الديمقراطية!