news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
على بركة الله...بقلم: وائل ديوب

كان ظلام الليل في ضاحية العاصمة الجميلة يخيَم شيئاً فشيئاً، والسكون يزحف رويداً رويداً، ومصابيح الضوضاء الصفراء والزرقاء تخفت الواحد تلو الآخر. وكانت همتي على متابعة السير ماشياً تنخفض مع غروب كل بسمة وإدبار كل وجه جميل، الى أن أنقذني من شرودي خليط من صراخ وبكاء فاجأ سمعي وشدَ فضولي وكأنه جاء ليستنفذ مابقي لدي من وقت للوصول الى غرفتي التي تأويني بالإيجار في طرف البلدة الكئيبة بعشوائياتها.
كان الصراخ يصل الى الشارع الرئيسي والأصوات تختلط بين بكاء ورجاء وارغام وتحدي "لا أريده، لا أريده، لاأريد أن أتزوج منه، لا أريد أن أتزوج الآن. أنا لازلت صغيرة، وعندي مدرسة. أنا أريد أن أتعلم وأصل الى البكالوريا، أريد أن أحصل على الشهادة الثانوية وأكمل تعليمي. لا..لا.. لست موافقة. لاأريده. لاأريد.. ياأمي..ياأمي.."
 


كانت الشهقات المتواترة تمزق كلمات طفولية ولاءات فتية ونداءات استعطاف ورحمة، وكانت كلمات القسوة والغصب والاكراه والشتيمة تقترف إثماً جديداً بحق الطفولة دون شفقة.
"ساعدوني ياأولاد الحلال. يالطيف، ياالله، سوف تموت من كثرة الضرب والتعذيب. يكفي ياأبو محمد. الضرب لن يغير في رأيها شيئاً. لماذا تجبرها على شيء لاتريده، لماذا ترغمها على الزواج من ابن عمتها؟! إنها صغيرة بعد على الزواج، أما هو فقد تجاوز الخامسة والأربعين، ولو وجد فتاة ترضى به لما طلب من أمه أن تتوسط لديك من أجل ابنتك البكر- اخرسي- لقد بحث كثيراً وطرق أبواباً عديدة لكنه لم يستطع اقناع أي فتاة، حتى العوانس منهن."
- اخرسي يـا.. فلو لم يجبرك أبوك على الزواج مني منذ خمس عشرة سنة لكنت الآن في عداد العوانس اللاتي تتكلمين عنهن. الواحدة منكن لايصلح لها إلا الزواج، وأبوها أدرى بما يناسبها. إن ابن عمتها سيصونها ويحميها ويؤمن لها كل ما تريده.
- طبعاً، كما أمنت لي كل ما..
- قلت لك اخرسي..
- وتضربني بعد كل هذا. الله لايسامحك. سأترك لك هذا البيت بما أمنته لي فيه. فأنا لم أعد أحتمل هذا العيش.
وماهي إلا لحظات حتى خرجت الى الشارع امرأة منفوشة الشعر، تلملم بين يديها بعض الكسوة الخارجية، والدموع تملأ عينيها "الله لايسامحك..الله لايسامحك.."
-ياأخي، ياأخي.. ساعدني من فضلك، الله يخليك.
-الى أين أنت ذاهبة في مثل هذا الوقت؟
-الى بيت أمي.
-هل تريدين أن أرافقك الى هناك.
-"اعمل معروف.الله يكترأولاد الحلال".
-لقد سمعت بعض مادار بينكم لأن النافذة مفتوحة، وأصواتكم عالية وحادة ومسموعة في هذا الليل الساكن. لكن الفضول يدفعني أكثر، بعدما رأيتك، للسؤال عما كان يجري بينكم. مالذي حصل معك؟ ماالذي يدفعك الى مغادرة بيتك في مثل هذا الوقت المتأخر؟
-لأن أخته وابن أخته ذهبوا من عندنا متأخرين. لقد شرفونا بزيارتهم هذا المساء برفقة زوجي. أنا لم استغرب الأمر. الأقارب يزورون بعضهم بوقت متأخر دون موعد ولا دعوة. تعاملت مع هذا الوضع بشكل طبيعي. قمت بالواجب كالعادة. جهزت عشاء بسيطاً، وتسلينا ببعض الفواكه الباردة، وعزمت أن أحضر الشاي، لكن ابن أخته طلب وبعدم المؤاخذة "ياريت نشرب قهوة ومن يد العروس"، وتابع زوجي الطلب "ياالله ياأم محمد خلينا ندوق القهوة من إيد سمورة"، وقاطعه ابن أخته "ربي يخليكي ياحماتي".
عروس! سمورة! لقد جنَ جنوني لدى سماع هذا الكلام. وقلت له: أنا أحضر القهوة لأن السمورة تدرس وتحضَر لامتحانات الشهادة الاعدادية.
أية اعدادية؟ اذهبي وقولي لها أن تخرج وتسلم على عريسها وستحصل على أحلى شهادة ودون قراءة ودون تعب.
ذهبت وأنا ارتجف من الخوف. أغلقت الغرفة وأقفلت الباب وضممت ابنتي وعدت خمس عشرة سنة الى الوراء استعيد سنوات العذاب والألم والشقاء. إن الأيام تعيد نفسها على مايبدو. لقد كان المرحوم والدي، ولايجوز على الميت سوى الرحمة، قاسياً جداً، وقد أجبرني على الزواج من ابن عمتي مباشرة بعدما قدمت امتحانات الشهادة الاعدادية النصفية. كان والدي شديداً جداً علينا، وظالماً مع والدتي بشكل لايطاق. لازالت ترن في أذني ألوان من الشتائم والكلمات السيئة.لازلت أذكر كيف كانت أمي ترتعد وتكاد تصاب بالسكتة لدى سماعها كلمات التهديد بالطلاق. لم يكن والدي ليرحمها رغم السنين الطويلة التي عاشاها سوية. خرجت موافقتها على زواجي من ابن عمتي من أسفل حلقها وانفجرت بالبكاء، بينما كان والدي وصهره الموعود يتحدثون ويضحكون وعلائم الرضى بادية على وجهيهما. كنت أراقب كل مايحدث. أحياناً من خلف الباب، وأحياناً أخرى من خلف دفتي الكتاب وأنا أفتعل القراءة، وأحياناً من خلال أصواتهم المتعالية التي يسمعها حتى الجيران ويطلقون عبارات الشفقة والعطف. طبعاً لم يكن بإمكاني أن أفعل أي شيء. ليس لدي أحد من هو أقوى من والدتي ألجأ إليه، أو أحد أهرب إليه. كنت أنتظر قدري لحظة بلحظة. لازلت أذكر تلك الأمسية المبكرة والطاولة الصغيرة وقد امتلأت بالمأكولات والمشروبات، وحلقتين يتيمتين دست إحداها في إصبع يدي اليسرى..على بركة الله..وعلى بركة الله أوصلوني الى باب الحوش الخارجي الذي خرجت منه بنفس الثوب الذي ملَني ومللته، ومعدة خاوية منذ الصباح، لأصبح منذ تلك اللحظة على ذمة رجل لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه ابن عمتي.
كنت أنام كل ليلة على مخدة مبللة بالدموع دون حراك. أنا لاأريد أن يتكرر كل هذا مع ابنتي البكر. لاأريد أن تتكرر مأساتي ويتكاثر عذابي. يكفي..يكفي..
استفقت من هذه الذكريات على صوت الباب الخارجي يصفق بقوة، وهدير أقدام تزلزل الممر المؤدي الى الغرفة المقفلة. ثوان وكانت الركلة التي أودت بالباب تتكرر على جسدينا، وضرباته تنهال علينا دون رحمة، وبوحشية أكثر مما اعتدت عليه، ويصرخ في وجهها ،المسكينة، "ستتزوجينه. الأمر ليس كما تريدين أنت وأمك. عرسك الخميس القادم. سيأتي ويأخذك على بركة الله".
ياإلهي! الى متى ستدوم بركتك؟!
كان درب الحرية بين منزل والدي ومسكني الجديد قصيراً جداً، عبرته مشياً على الأقدام. لم أعرف بعده للحرية طعماً. خمسة عشر عاماً قضيتها بين غرف النوم والجلوس والضيوف، أكنس شقائي كل صباح وأنشر همومي على حبال الغسيل وأجلي أحزاني عن قعر الطناجر والصحون. وهاأنا أعود الى أمي على نفس الطريق، لاأحمل معي سوى إهانات وكلمات جارحة وذكريات أليمة وأشياء سيئة كثيرة في حياتي، أجر أذيال هزيمتي بعد معركة استمرت خمس عشرة سنة لم أذق فيها للفوز طعماً، ولم يتسنى لي حتى الاعتذار من ابنتي قبل أن أتركها لمصيرها.
لمن أترك الراية، والى متى ستعبر "السمراء" نفس الطريق؟!
 

2018-05-21
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد