عندما يخيم الليل ويغطي بظلامه ملامح الطبيعة من
أشجار وأرصفة وطرقات خالية من زحمة المارة وأنت غريب تسأل نفسك من أنا في كل هذا
الظلام وأين أنا ؟ ...في بلاد الضباب والغيم والبرد ...حيث لا تهمك جهات غربتك
شمالا كانت أم جنوبا ... تغذ السير متجها إلى منزل صغير في الطابق العاشر لا تحن
إليه لأنه ليس لك وتعلم أنك ستتركه يوما ما ...لذا تقول في قرارة نفسك لا يهم أنه
العش الذي يستريح فيه النسر المهاجر قبل أن يعود لوطنه الأم ...
وأمام بوابة العمارة تلتقي بجارك العجوز الذي
يعيش لوحده لأنه لم يتزوج وهو سعيد بحياته على ما يبدو ....! حيث كان يردد هكذا
عبارات باستمرار أمام الناس ذات صباح في موقف الباص.... لا أولاد ولا زوجة ولا
مشاكل ولا مسؤولية... فتلقي عليه تحية المساء بلغة ركيكة وخجولة ( guten abend )
... تتجه إلى المصعد... تفتح باب شقتك ... لا أحد ينتظر عودتك سوى طاولة خشبية
وكومة من الأوراق منها ما زال ينتظر خربشات خطوطك العريضة ومشاريع أحلام لن تتحقق
....! ومنها ما هو ممزق على شكل لقمة القاضي المرتشي الذي لم يمنحك حقك البسيط في
دعوتك الأخيرة في محكمة الشعب السعيد ...
في هكذا موقف يتكرر معك بشكل رتيب وهادئ تعلم أن لا أمل اليوم أيضا للعودة إلى
الوطن لأن الحرب لم تنتهي ولأنك مقيد بخطط وأوهام أكتشفت مؤخرا أنها ليست بمستوى أن
يبتعد المرء عن وطنه لأجلها ...تجلس على كنبة وحيدة حتى هي .... ربما أيضا ملت
جلوسك الطويل عليها ..تدخن سيجارة العودة للمنزل ... تضغط كبسة التلفاز وتبدأ بسماع
أخبار الحرب من قصف وصواريخ سقطت فوق أبناء شعبك المدنيين وصور لأطفال أصبحوا فحما
أو أشلاء رجل مزقته قنبلة مفخخة وهو في طريقه إلى عمله أو صورة مجموعة من الأسرى
وضعوا في قفص حديدي وكأنهم حيوانات جاهزة للعرض أمام الجمهور مثلما يحدث في السيرك
وفجأة تسمع من يقول (الله أكبر ) فتشتعل النار بهؤلاء الرجال إلى أن ينهاروا على
الأرض ليفقدوا حياتهم بكل بساطة فالوطن ينزف شعبه .....
فتجتمع عليك كل خيباتك دفعة واحدة وتعب الجسد الذي أرهقه غياب حرارة الشمس ...
ذكرياتك المرة التي دفعتك للهجرة ...وبكاؤك الصامت من داخل الجفون بلا دمع أو حتى
تنهيدة طويلة ..الكثير والكثير من تفاصيل حياتنا اليومية والصغيرة في الوطن تصبح
حلما صعبة المنال ... فتعلم أن الوطن يعيش بداخل دماغك عبرات سنوات مرت عليك وأنت
لا تشعر بها وأنت مع من أوجدك الخالق معهم ... الأهل والأحبة والأصدقاء ... رياح
الغربة الباردة التي تحاصر أحلامك كيفما وجهت أشرعتك فهي تخونك بأتجاه آخر ...
وتجعل كل من قناعاتك السابقة هشة وتافهة أمام صعوبات ومواقف وجبهات لم تعد تقوى على
مواجهتها فالعمر قد سار بك نحو الهاوية أيها الغريب وأنت ما زلت تحلم وتخطط للعودة
إلى الوطن ...فتضيع صور الذكريات في فوضى طابور الأحلام والخيالات وأنت تنتظر أن
تبدأ حديث على النت مع حب يلاحقك أينما اتجهت غربا أو شرقا ... ربما لأنه قدرك
الجميل... أن ترافق غربتك سيدة بلون الياسمين ورائحة النرجس تخفف من وحشة الليل
الطويل وتمد أحلامك بمزيد من النشاط لتستمر حتى الصباح وأنت تناقش مسألة الحب
المؤجل .