ليس هناك أدنى شك بأن حادثة شارلي إيبدو الأخيرة ينبغي أن تثير القلق لدينا كمسلمين أولاً وكعرب ثانياً حول ما سيأتي مستقبلاً من تداعيات، لم تتضح معالمها بعد. وسواء أكانت هذه العملية حقيقية أو مسرحية من إخراج شبكات المخابرات الدولية فإن وقوعها كان متوقعاً وحتمياً كما أن ما أتى وسيأتي بعدها من تحركات حول العالم كانت مهيئة أو شبه مهية، بانتظار الحدث المناسب.
بينما رأى البعض في الحادثة انتصاراً لعزة الإسلام، في مشهد يعود بنا في الذاكرة إلى رودود أفعال الكثيرين بعد سقوط برجي مانهاتن وما رأيناه حينها من توزيع للحلوى في شوارع بعض المدن العربية ابتهاجاً بنصر مزعوم، فإنه بالنظر إلى حجم ردود الفعل العالمية المنددة بحادثة شارلي إيبدو يمكننا الجزم بأن هذا الحدث سيشكل منعطفاً تاريخياً قد يضاهي ما شهده العالم بعد حادثة الحادي عشر من سبتمر المشؤومة.
لا يمكن النظر إلى ما حدث وتداعياته بمعزل عما يجري اليوم حول العالم تحت مسمى
محاربة الإرهاب "الإسلامي المتطرف" وعن جذروه التي تعود إلى ما بعد انتهاء الحرب
الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وصعود ذريعة القاعدة كقوة عابرة للقارات وبديلة عن
الصراع ما الاتحاد السوفيتي.
وكخطوة أولية في تحليل هذا الموضوع لا بد لنا من مراجعة سريعة لآليات إدارة السياسة العالمية. إن استخدام مصطلح "المؤامرة" هو في محض ذاته تبسيط ساذج لحقيقة السياسة الدولية وجوهرها والتي تقوم أصلاً بمجملها على التآمر بمعنى آخر في لعبة السياسة لا وجود إلا للمتآمرين ولكن في النهاية من يملك الأدوات والقوة هو من يتفوق ويبسط سيطرته على المتآمر الضعيف المهزوم أو "العاجز" عن التآمر.
منذ قدم التاريخ تسعى أية قوة صاعدة إلى فرض هيمنتها على ما تيسر من العالم. ولا يخفى على أحد ما للنفوذ السياسي من أثر على "تسمين" اقتصاد الدول القوية (وحكامها) بحيث تعيش هذه الدول كالطفيلي على الدول الفقيرة التي تبقى على فقرها لا بل وتزداد فقراً. ولبسط نفوذها تستخدم الدول القوية شتى الوسائل والذرائع المقنعة منها أو غير المقنعة. ومن أهم هذه الوسائل في نظري هي استراتيجية "خلق النزاعات" كمرحلة أولى ومن ثم التدخل لحل هذه النزاعات. وهو ما يمكن أن نسميه استراتيجية "بسط النفوذ من خلال خلق النزاعات وإدارته".
لو عدنا بالذاكرة لوجدنا أن الربط بين الارهاب والاسلام المتطرف هو مفهوم حديث
نسبيا ولو تمحصنا أكثر في التاريخ لوجدنا أن هذا الربط قد بدأ أولاً بشكل محلي وضمن
العديد من الدول الإسلامية والعربية بشكل خاص. تكرر السيناريو ذاته تقريباً في عدد
من الدول العربية وعلى رأسها سورية ومصر والجزائر وفي جميع هذه الأمثلة نجد بأن ما
أصبح يطلق عليه مؤخراً بالإرهاب الإسلامي انطلق كإسلام سياسي ومن ثم تحول أو
تم تحويله إلى حركات مسلحة ليتم لاحقاً سحقها بشكل دموي وكان من النتائج المباشرة
لهذه "الحروب المحلية على الإرهاب الإسلامي" ترسيخ سلطة الأنظمة واستمراريتها في
الحكم لسنوات مديدة.
إبان الحرب الباردة كان هناك قطبان يديران الصراع في العالم وقد غنم كل قطب ما غنمه
بحجة محاربة القطب الآخر وحماية العالم من مخاطره المحدقة على البشرية! ومع فشل
الاتحاد السوفيتي في المحافظة على التوازن في الصراع القائم وسقوطه، برزت سياسة
القطب الواحد وبرزت الحاجة إلى ذرائع ونزاعات جديدة –مها كانت صغيرة أو تافهة- بما
يسمح للغرب المهيمن التدخل حول العالم لإتمام عمليات السرقة الدولية تحت مظلة
قانونية من النظام العالمي الجديد. وهنا لم تطل الأمور كثيراً حتى بدأنا نسمع عما
عرف لاحقاً بـ "القاعدة"، بعد أن كان ينظر لأفرادها على أنهم "مجاهدين" ضد الخطر
الشيوعي الشيطاني.
القاعدة هم مجموعة من الناس -تتوفر عنهن ملفات كاملة عنهم لدى الاستخبارات الدولية كونها قامت بتجنيدهم- بأعداد متواضعة تعيش حياة متقشفة في مناطق مجهولة على خارطة العالم وتمتلك من السلاح والعتاد أبسطه، وفوق كل هذا تم تأسيسها وتسليحها وتدريبها من قبل المخابرات الأمريكية على وجه التحديد. تتحدث الرواية الأمريكية عن انقلاب السحر على الساحر وفقدان السيطرة على هذه المجموعة المتشرذمة، ولكن هل لعاقل قبول هذا الادعاء والتصديق بأن الأمريكي وقع بسذاجة في فخ نصبه لنفسه؟!
واقع الحال عبر السنوات يثبت بأن الغرب وخاصة الولايات المتحدة كانوا الأكثر استفادة من ذريعة القاعدة. بدأت القصة بالتدخل في أفغانستان وجارتها الباكستان ومن ثم جاءت العراق -حين تم حينها الربط بطريقة فجة بين العراق والقاعدة- ولم تنتهي الحرب إلا وقد أصبح تنظيم القاعدة في العراق تحت ولاية مصعب الرزقاوي آنذاك واقعاً فعلياً. وانتشرت القاعدة حول العالم: اليمن، الصومال، مالي، نيجيريا ... ومؤخراً سورية تحت مسميات جديدة فلم تعد الأسماء مهمة فهي جميعها في خندق واحد: الإرهاب الإسلامي.
وبينما كان الغرب يروج لبروباغاندا القاعدة كان في الوقت يستقبل كل القادمين من المتطرفين الإسلاميين على ارضيه تحت مسمى لاجئين إنسانياً لفظوا من حكومات بلادهم. أعتقد شخصياً بأن كل من تسنى له العيش في دول أوروبا الغربية قد لاحظ لا بل استغرب الوجود اللافت للمتطرفين الإسلامين في أوروبا في حالة تثير التساؤل والاستغراب عن سر التناقض من حيث وجود هؤلاء في مجتمعات يضمرون لها الكره باعتبارها مجتمعات "كافرة" في نظرهم -رغم كل ما يحصلون عليه من مكاسب مادية معنوية من هذه الدول. وفي واقع الحال فإن هؤلاء هم أنفسهم من يقومون بالأعمال الإرهابية بين فترة وأخرى وفي مدينة غربية أو أخرى ليعيدوا إلى واجهة الأحداث من جديد بأن "الإرهاب الإسلامي" موجود ولا بد من محاربته.
قد يتساءل الكثيرون عن أسباب اضطرار الغرب المسيطر على العالم إلى اختراع وسوق
الذرائع متل ذريعة القاعدة والإرهاب الإسلامي. الإجابة ببساطة تكمن في أن هذه الدول
-على الأقل من حيث المظهر- هي دول ديموقراطية وبالتالي هي تحتاج إلى حشد شعبي ورأي
عام مقتنع ومؤيد لسياسات الحكومة خاصة عند يتعلق الأمر بالقيام بأي فعل يشمل تدخلاً
خارجياً أو المشاركة في حروب أو غزو دول أخرى. هم يصورون لشعوبهم بأنهم يقومون
بتطبيق النظام العالمي والدفاع عن الحريات وتطبيق حقوق الإنسان ... وهذا ما تقتنع
به نسبة كبيرة مغشوشة من هذه الشعوب (كما هو الحال مع كل شعوب الأرض). لكن في
الحقيقة هم يقومون بسرقة العالم، علماً أن هذه السرقات تذهب للاشخاص المتنفذين
والشركات الكبرى وليس لشعوب هذه الدول بشكل مباشر.
لماذا ذريعة الإسلام الإرهابي؟ لا يخفى على أحد بأن الاحتياط النفطي الأهم موجود في
الدول الإسلامي. إن خلق ذريعة ما وربطها بالإسلام يسمح للدول القوية بالتدخل متى
شاءت وفي أي مكان تشاء تحت مسمى محاربة الإرهاب الإسلامي. بينما تستعر نيران الحروب
في الشرق الأوسط نرى بأن أسعار النفط في السوق العالمية قد انخفضت إلى مستويات غير
مسبوقة منذ سنوات وهو وضع يناقض كل ما عهدناه تاريخياً وما تعلمناه وفهمناه عبر
عشرات السنين عن أسباب تذبذب أسعار النفط (ودون الدخول في أسباب هذا الانخفاض في
الأسعار). ينبغي لهذا القراءة للواقع أن توصلنا إلى قناعة بأن كل ما يجري في العالم
لا يجري عفوياً وإنما يتم بدراسة وتخطيط وإدارة من القوى العظمى.
ماذا ينتظرنا كمسلمين وعرب؟حادثة شارلي إبدو أتت في ذروة الحرب على الإرهاب
الإسلامي. لم تفرغ فرنسا بعد من محاربتها للقاعدة السمراء في مالي. بينما تقود
الولايات المتحدة معركتها "المقدسة" على داعش في سورية والعراق وتعلنها صراحة بأن
هذه الحرب ستستمر لبضعة سنوات. ولا بد هنا الإشارة إلى أن كل هذا يترافق مع صعود
الطائفية الإسلامية بشكل لم يسبق له مثيل في المنطقة... أقولها بحسرة: لا يمكن
التعويل كثيراً على وعي الشارع العربي والمسلم وهو ما أثبتت التجارب الحالية، بل
على العكس: سيرى هذا الشارع في ما يجري حرباً معلنة بشكل مباشر على الإسلام، وله في
ذلك ما له من حجج وبراهين
وسيؤدي هذا بشكل حتمي إلى مزيد من الأعمال الإرهابية ضد أهداف مدنية في مدن غربية والتي بدورها ستقدم مزيداً من الذرائع للغرب للمضي في معركته للقضاء على الإرهاب حتى النهاية! لست متمرساً في علم الفراسة أو الفلك ولكن الاستنتاج المنطقي لما يجري يجعلنا نصل إلى خلاصة بأن هذه الحرب الشعواء على الإرهاب قد تستمر حتى سرقة آخر قطرة نفط في أقصى كثبان رمل في الصحراء العربية الكبرى والربع الخالي...
لا يسعني هنا إلا أن أتذكر إجابة معمر القذافي في إحدى مقابلاته التلفزيونية "التاريخية"
وقد سُئل عمن يتظاهر من الليبين في الشوارع عندما قال: "هؤلاء هم القاعدة وليس
أبناء شعبي.... " بالطبع فإن الغرب ضحك كثيراً من إجابة القذافي وكان رده بإرسال
طائرات الناتو ولسان حاله يقول: "على هامان يا فرعون؟!"
https://www.facebook.com/you.write.syrianews