أقود سيارتي عائدا من عملي بعد يوم عمل عادي لا شيء مميز فيه، حركة المرور بطيئة و العربات الزاحفة تحيط بي على الجانبين، يلفت نظري سيارة في منتهى الفخامة بجوار سيارتي، أعقد مقارنة سريعة بينهما، لو كانت الفخمة هذه تقييمها عشرة على عشرة فإن سيارتي المعقولة تساوي ستة و نصف على عشرة، فهي قديمة عادية و لكنها تعمل و تقريبا خالية من المشاكل.
استوقفتني درجة الستة و نصف على عشرة التي أعطيتها لعربتي، بقليل من التفكير و التأمل خـُـيــِـل لي أن حياتي كلها ستة و نصف على عشرة، أخذت استعرض الجوانب المختلفة المهمة في حياتي، صحتي معقولة فأنا لا أشكو من مرض معين، أُجْرِيـَـت لي جراحة كبيرة منذ عدة سنوات تستلزم متابعة دائمة، أرتدي نظارة طبية لضعف بصري، أحيانا أصاب بحموضة في المعدة فيجب علي الاحتراس فيما أأكل، باختصار و إذا اعتبرنا كل هذه العوامل فحالتي الصحية ستة و نصف على عشرة، بخصوص وظيفتي فهي أيضا معقولة، ليس هناك ما يدعو للشكوى و لكنها ليست الوظيفة المرموقة التي يتطلع لها الطامحون
فبعد عشرين سنة من العمل وصلت لمركز مدير إدارة صغيرة، بعض زملائي ممن يماثلوني في الخبرة و الدرجة العلمية لم يصلوا لمثل هذا المركز المعقول، بينما آخرون تجاوزوه في السلم الوظيفي و أصبحوا نجوما لامعين في المؤسسة التي أعمل بها، تقييمي لنجاحي الوظيفي هو ستة و نصف على عشرة، ماذا عن حياتي العاطفية؟ تزوجت عما اعتقدت أنه حبا و لكن سرعان ما اتضح لي الفروق العديدة في التفكير و الطباع بيني و بين شريكة حياتي، و بالتالي تحولت العلاقة بعد أول سنة زواج إلى تعايش بدلا من حب، و بصراحة أنا أقوم بدور ناجح في إدارة هذه العلاقة بطريقة مهذبة راقية تخلو من العواطف الجياشة و لكن تخلو أيضا من الجفاء و الخلافات، فتقييمي إذا لعلاقتي الزوجية هو ستة و نصف أخرى على عشرة، ماذا عن حياتي الجنسية؟ هي أيضا ستة و نصف على عشرة و إن كان من الأفضل أن أحول تفكيري بسرعة عن هذا الموضوع، بالنسبة لحالتي المادية، ستة و نصف أكيدة على عشرة، فهي مستورة و الحمد لله، يجب أن أنفق بحذر و لكني لا أعاني من الفقر أو الحاجة.
* * * * *
ما زال المرور يتحرك ببطء مميت بينما أفكاري تنطلق محلقة، أشعر أن حياة الستة و نصف على عشرة هذه تقتلني، حياة عادية مملة لا لون لها و لا طعم، حتى أوقات فراغي تقع تحت نفس التقييم، فأنا أقرا كثيرا و هذه بلا شك ميزة وسط عالم لا يقرأ، باقي وقتي أتفرج على التلفزيون ببرامجه المملة المعادة المتشابهة، لا هواية فنية مثل الرسم أو عزف الموسيقى و لا رياضة راقية مثل التنس أو الجولف فأوقات فراغي أيضا تقييمها ستة و نصف مميتة على عشرة، آه لو كان هناك جانب رائع في حياتي، آه لو حتى استطعت أن أقايض أحد جوانب حياتي المقبولة فتصبح بائسة مقابل أن أحصل على جانب آخر رائع مـُـمـَـيز يشبع طموحي و يضيف بعض الإثارة في حياتي، على سبيل المثال لا مانع لدي أن أتحول إلى موظف صغير منسي في وظيفة تافهة مقابل أن أكون ثريا أنفق بسهولة على متع الحياة المختلفة دون تفكير دائم في العواقب، أو حتى أن تسوء حالتي المادية مقابل أن أكافأ بعلاقة عاطفية رائعة، حب يملأني بالسعادة و الحياة و المغامرة.
فجأة قطعت أفكاري بقسوة فقد صدمتني من الخلف سيارة، خرجت من سيارتي متضايقا و عاينت مكان الصدمة، وجدت أحد المصابيح الخلفية قد كسر بالإضافة لغـَـوْر قبيح في المؤخرة، نزلت من السيارة الأخرى سائقتها الحسناء، تأملتها بإمعان، مظهرها كان خير تجسيد لعبارة قرأتها في رواية لكاتبي المفضل يصف امرأة بأنها على الحدود ما بين الغانية و العاهرة، اقتربت مني و بابتسامة معتذرة سألتني:
ـ هل أنت بخير؟
هممت أن أقول لها:
ـ لا، لست بخير فقد كسرت قلبي، و أنا الآن على مشارف الإغماء، و احتاجك أن تقومي بإجراء تنفس صناعي لي حتى لا أموت.
و لكن لأن مستوى جرأتي هو ستة و نصف على عشرة فقط فقد قلت لها بلهجة محايدة:
ـ أنا بخير و لكن سيارتي ليست بخير.
نظرَتْ لآثار الحادثة ثم اقتربت مني و وضعت يدها على كتفي و قالت بلهجة مستجدية:
ـ أنا آسفة جدا، كانت أفكاري شاردة أثناء القيادة، سأتحمل تكاليف الإصلاح، المشكلة أني الآن غاية في الاستعجال فبسبب حركة المرور البطيئة اللعينة هذه أنا متأخرة عن ميعاد مهم و ليس عندي وقت الآن لتصفية هذا الموضوع، هل يمكنني أن أقابلك غدا مساءا كي نناقش ما حدث.
نـَظـَرَت حولها، و دون أن تنتظر رأيي أشارت إلى كافيتريا على ناصية الطريق و قالت:
ـ ما رأيك؟ غدا السابعة مساءا، في هذه الكافيتريا.
ثم بضحكة مليئة بالغواية:
ـ لا تخف فلن أهرب.
ثم قبضت على يدي و أعطتها ضغطة كهربائية صعقت كياني و أكملت:
ـ المهم ألا تهرب أنت.
بدأت بعض السيارات المحجوزة خلف سيارتينا إطلاق أبواقها، توجهت الحسناء لسيارتها، و كررت قبل أن تغلق بابها:
ـ غدا مساءا سأنتظرك.
توجهت لسيارتي و عاودت القيادة وقد استولى ما حدث على تفكيري تماما.
* * * * *
اليوم التالي عدت لمنزلي بعد انتهاء يوم العمل، تناولت طعامي، أخذت أفكر في الفرص المتاحة لي أخيرا لتغيير حياتي الرتيبة، يمكنني الآن إضافة بعض الإثارة لحياتي، و سأقول وداعا لحياة الستة و نصف على عشرة، المهم أن أتصرف بطريقة سليمة، كل ما أحتاجه أن أتصرف بذكاء، و بالتأكيد أملك الذكاء الذي سيمكنني من النجاح، مثلا، لن أتنازل عن تكاليف إصلاح السيارة، فالمغامرة العاطفية لا علاقة لها بالتعويض، سأكون صريحا بقدر الإمكان مع الحسناء فيما يخص المعلومات عن نفسي و في نفس الوقت سأعتمد على خفة دمي كي . . . كي ماذا؟ ما الذي أطمع فيه من هذا اللقاء؟ في الواقع جزء كبير من الإثارة و المتعة أني لا أعلم ماذا سيقود إليه ميعاد الليلة، و لكن هل أنا ضامن أنها ستحضر أم أنها خدعتني كي تتهرب من مسئولية خطئها، موضوع حضورها من عدمه أيضا جزء مهم من الإثارة.
حتى يحين ميعاد ذهابي للقائها تبادلت بعض الكلمات الرتيبة مع زوجتي، ثم جلست امام التلفاز أشاهد أحد البرامج المملة، حينما حان ميعاد الذهاب أقنعت نفسي أن المرأة لن تحضر، بدلا من الخروج سحبت أحد الكتب من مكتبتي و شرعت في قراءته، رواية قديمة كنت قد قرأتها من قبل، و كان تقييمي لمستواها ستة و نصف على عشرة.
لقد لفتتم نظري لتقييم النواحي المتعددة من حياتي . ولست أدري من أين أتى النصف . مزيج من الضحك والتأمل كان هو حالي وأنا أقرا بشغف كلماتكم أستاذ . بارك الله بكم . وكنت منذ يومين أتسائل لماذا تأخر علينا الأستاذ بعد أن عودنا على تناول جرعات كبيرة من السكر الذي ينزفه فكره الشريف . ورفعت . يداي بالدعاء أن لا يتأخر عن الستة ونصف
تقييمي لروايتك ستة ونصف على عشرة..لو انهيت الرواية بذهابك إلى الميعاد لعرفت سبب وقوفك عند هذه العلامة؟! لأن علامة عشرة على عشرة لا تحصل عليها إلا إذا قطعت السبعة والثمانية والتسعة..وبالنسبة لرواية كاتبك المفضل إمراة على الحدود بين الغانية والعاهرة أعطيه: نصف علامة على عشرة.. هذا النصف المتبقي من علامتك الستة...!!
يبدو ان الكاتب موضوعي في عالم يفتقر الى الموضوعية رغم عدم تحليه بالجرأة والمشكلة في بلدنا عدم قدرة معظم الناس على التقييم بسبب الامراض النفسية والاجتماعية التي نعانيها وان كانت حرية التعبير التي باتت متاحة تمكننا من تحسين اوضاعنا ولو قليلا بعد فقد للامل لعقود وتقييم الانسان بكسر ممكن ولكن البسط هو ما يراه الناس فيه والمقام هو ما يرى نفسه وبالتالي تصغر قيمة الكسر بعظم ما يراه الانسان في نفسه