كما عودتنا السياسة في مجمل أحداثها و انطباعاتها بانقلابها على ماهو مستحيل وتغييرها لقواعد الممكن تحت مكامن السرية والغموض لتذليل كل ما يواجهها من عقبات وصعاب لإحكام السيطرة على السلطة و منافذ الحلول , مما يجعل من المواطن العربي يتوقع ماهو أسوء من صدمته المفجعة بما آلت عليه حال (الربيع العربي ) ويلغي تأريخ صفحات ثوراته بثوره الحرية والديمقراطية والعدالة الإنسانية كما كان يطمح ويصدح .
ان ما حصل ومازال يحصل في دول ( الربيع العربي ) من أحداث وتطورات على الصعيد الشعبي و الدولي إنما يعبر في دلالة واضحة عن انكسار شديد لمطالب الجمهور العربي بجميع شرائحه الديموغرافية وانتماءاته السياسية بالحرية والديمقراطية والعيش الرغيد , فعلى الرغم ما يميز بلدان (الربيع العربي ) بعضها عن بعض بالمستوى الاجتماعي و الثقافي و الحراك السياسي إلا ان هناك الكثير منها تتشارك به نجملها بما يلي :·
ان جميع تلك الدول تعاني من مشكلات اجتماعية واحدة متمثلة بالفقر والبطالة و سوء التعليم و التدني لمستويات الرعاية الصحية , وغالبية السكان من الطبقات الفقيرة .· ان جميعها تعاني من ضآلة الحراك السياسي وانحسار هامش الحريات في الإعلام وحرية التعبير ومشاركة المواطن بالحياة السياسية في بلدانهم .·
أنها كانت تحكم من قبل حكومات تتسم بالسلطوية والإدارة المركزية الواحدة وهيمنة أسرٌ حاكمة في بعضها على مفاصل الدولة واستنزاف قدرات ومقدرات البلاد الاقتصادية والمالية .· على الرغم من كونها بلدان منفصلة كل منها على حدا وترتبط كل منها بمصالح وعلاقات خاصة على المستوى الدولي والإقليمي إلا أنها ترتبط جميعها بحزام جغرافي واحد في منطقة الشرق الأوسط وهذا ساعد في انتشار وسرعة الحراك الشعبي في التغيير , مما أدى لانعكاس ذلك أيضا عليها ما بعد حدوث التغيير .وبعد تغير أنظمة الحكم الديكتاتورية واستبدالها بأنظمة حكم ديمقراطية منتخبة بعد الثورة , مازال الحراك السياسي يشهد اضطرابا واضحا في غايات ومطالب الثورة مازالت دون المستوى الذي ترقى إليه أرواح الشهداء التي زهقت إبان الثورة ومستويات الأمان دون المعهود قبل الثورة , اذا فما هو الخلل ؟ أهو في أحقية المطالب ؟ أم صعوبة المطلوب ؟ .
لقد أفرزت الثورة مجموعة من المتغيرات على صعيد الفكر الشعبي و على الصعيد السياسي تتمثل بازدياد الوعي الفكري لعامة الشعب بحقوقه الإنسانية الأساسية لكل مواطن يعيش على أرضه , حرية التعلم والتعبير و العمل والعيش الرغيد وكيفية العمل على تحقيقها , وحقه باختيار الحياة السياسية التي ينتمي إليها وبمن يمثله في قيادة الدولة والمجتمع مما جعل شعوب الربيع العربي تعيش حالة من انفصام حاد لما آلت إليه مكاسب الثورات , ولعل من أبرزها تسلم التيارات الإسلامية زمام الحكم ودفة القيادة فيها وممارستها لسياسة الإقصاء للأحزاب الأخرى بعد وصولهم لسدة الحكم وهم كانوا شركاء من ذي قبل في انقلاب التغيير على الحزب الواحد والسلطوية والديكتاتورية , فقد تزعم الإخوان الحكم في مصر مرتكزين على قاعدة شعبية ترتكز في أساسها على الانتماء الديني وانتقاد السياسة المتبعة من قبل نظام حسني مبارك والذي ساعدها بالوصول الى السلطة انحصارها بالانتخابات بمواجهة أزلام النظام القديم لتيار احمد شفيق على حساب منافستها مع القوميين والتيارات العلمانية الأخرى
مما جعل من محمد مرسي الرجل البديل الوحيد عن الصورة النمطية للنظام السابق بأحمد شفيق وجعل مصر تنازع أحلام التغير بواقع لم يتغير فيه إلا القليل أيام مرسي فعادت الانتفاضات الشعبية الى الساحة وعادت شعارات إسقاط نظام الإخوان وانقسام المجتمع لتيارات مؤيدة ومعارضة للحكم بصورة قديمة ولكن في إطار جديد, وهاهي تونس بعد ان أشعلت الثورات وأطلقت رياح التغيير وأصبحت دافعا أمام شعوب المنطقة لتحذو حذوها تعود الى مربعها الأول بعد فترة من عدم الاستقرار ونزاع مع التيارات الدينية المتمثلة بحزب النهضة لاستلام زمام الأمور في البلاد وعكس الرؤى التي يجتمع إليها كل فئات المجتمع التونسي وليست فئة خاصة منه وليست بتلوين العلم التونسي بلون واحد يمثل التيار الديني ببلد كان يعيش عقود من الزمن على العلمانية وفصل الدين والأحزاب الدينية عن الدولة , فكان حادث اغتيال بلعيد حدث ينهي مجمل الإخفاقات التي أعقبت حزب النهضة والرئيس المرزوقي في قيادة تونس الجديدة التعددية والديمقراطية بعد عهد بن علي .
اما بالنسبة لليمن وليبيا فهما ما تزالان تصارعان شرذمتهما الاجتماعية والسياسية للخروج من حالة عدم الثبات التي أعقبت الثورة فعلى الرغم من تزعم تيارات معتدلة تميل للتعددية إلا أنها تعاني من انتشار الجماعات الدينية المسلحة وتواجد لمقاتلي القاعدة على أراضيها بالإضافة لنزعات انفصالية تهدد مقدرات البلاد ووحدتها مما يقلل من إمكانية الاستقرار المأمول في المستقبل القريب ليعيدها الى نقطة البداية بعد ان أَلِفت نهاية عهود الرجعية والانهزام في النظام القديم .وحتى في ما يخص الازمة السورية وهي تختلف كل الاختلاف في معطياتها وحالتها عن شبيهاتها فأن ما يؤجج الازمة ويزيد من استعارها التيارات الدينية المتشددة التي تقاتل على الأرض والتي للأسف جعلت من الأرض السورية ملاذ لتنفيذ مخططاتها وقواعد تدريب وتأهيل لكوادرها فيما لو نجحوا بما يّصبون إليه , يبعد خطرهم عن البلدان التي أتوا منها بتواجدهم في سوريا كمن يدفع الموت عن نفسه بقتل غيره فهناك من يدعمهم بالمال والسلاح مقابل ذلك , مما جعل الكثير من دول العالم تسأل نفسها أين سيذهب هؤلاء لو نجحوا في سوريا وما الذي سوف يمنعهم من المحاولة في مكان آخر وما هي آلية إيقافهم فيما لو اشتد عودهم وزاد بطشهم ؟هذا كله يجعلنا نلقي السمع والبصر على مجمل إخفاقات الأحزاب الدينية في قيادة الدولة والمجتمع بعد الربيع العربي ونقف على مجموعة من الركائز التي تفصل هذه الأحزاب عن القاعدة الشعبية التي صعدت من اجلها سلم الحكم وهي :·
ان الأحزاب الدينية هي أحزاب تحمل تاريخ عريق في المجتمعات العربية وهي أكثر رسوخا في عقلية المواطن العربي من أي أحزاب أخرى عاصرتها , وقد لعبت ملاحقات أنظمة الحكم السابقة دور ايجابيا في أبرازها كأحزاب وطنية تلتف حولها الجماهير , مما ضيق فرص المنافسة إمام الأحزاب التي أُنشِئت بعد الثورة على حساب الأحزاب القومية والعلمانية الأخرى · إنها تعتمد في جوهرها على الخطاب الديني وعلى العقلية الأكثر التصاقا بعقلية الجماهير البسيطة المهشمة والتي يجدون في هذا الخطاب ارتقاء لحياة العدالة والمساواة والتشاروكية مع من غيرهم فيسهل على هذه الأحزاب إشراك قاعدة اكبر من الناس معهم لان لا صوت يعلو فوق صوت الشريعة وتترك الفئات الأخرى أصحاب الفكر والمنهج العلمي والشباب المتمدن خارج إطار العملية السياسية والاجتماعية .
إن الأحزاب الدينية بما أنها مستمدة من قوة الشريعة وبين خطين ملونين بلون الحرام والحلال , فهي تعتبر أحزاب اقصائية لا ترى إلا من خلال منهجها وهي تفتقر الى منهج سياسي وبرنامج مدني يبني الدولة على أساس موضوعي وعلمي , وهذا يعيد الى عامة الناس ما قد ألفوه سابقا في الأنظمة المستبدة قبل الثورة ويبطئ في عملية الإصلاح ويعيدها الى آلام البيروقراطية والرجعية ويحطم آمال الشباب الطامح بالتغير والتعددية .بعد هذا الاستعراض يثقلنا الحاضر بمجموعة من الأسئلة نحملها للمستقبل وهي:
هل تستطيع الأحزاب الدينية اقتباس خطاب أكثر وسطية وموضوعية من الخطاب الحالي ؟
وهل ستنجح باسترضاء من جافتهم كتيارات أخرى في المجتمع وكسب ثقة الجمهور من جديد ؟
أم أنها ستفشل وستعتبر المرحلة التي مرت بها ونجحت بقيادة المرحلة ما بعد الثورة مخاض اليم لمستقبل أكثر استقراراً ووضوحاً ؟وهل تستطيع الحفاظ على الحاضنة الشعبية التي تقوت بها على مر أيامها قبل الثورات وتنؤ بنفسها عن ثورة مضادة تقوم عليها قد تؤدي بخسارتها التنافس السياسي لمدة ليست بقصيرة ؟هذا ما ستأتينا به الأيام المقبلة بكثير من التوجس وقليل من الأمل .
مقالة ممتازة لا احد يختلف عن الفساد والرشوة والتسلط حتى اشد مؤيدي النظام والله لو كانت ثورة سلمية وغيرا طائفية لكان عدد الشهداء اقل وسقط النظام من زمان ولكن لا احد يريد معالجة الخطاء بخطاء اكبر