في وقت كان ظلامُ الجاهلية يغشى فيه القلوبَ والعقول , وكان ليلها الحالكُ يغطّي شعاعَ الهدى والتقى , ويحجب نورَ الفضيلة والعفاف........
في وقت كان العقلُ البشريُّ قد وصل فيه إلى الحضيض , حتى أصبح الواحدُ منهم يعبد حجراً أو شجراً أو صنماً أو وثناً أو إلهاً من تمرٍ فإذا ما جاع أكله !!.......
في وقت نُزِعت فيه الرحمةُ من قلوب الآباء , فتحولت إلى صخورٍ صمَّاءَ , فكان الأبُ يواري ابنته تحت أطباق الثرى , وهي لا تزال على قيد الحياة , بلا ذنب ولا سبب , بل بمجرد التبشير بمجيء هذه الفتاة تسودُّ الدنيا في وجه والدها , ويتخبط تخبطَ عشواءَ , فلا يدري ماذا يفعل ؟؟ كما صور القرآن الكريم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }النحل 58ـ 59
في وقت تُرتكب فيه المحرماتُ ,وتستسيغ الناسُ الفواحشَ , وتكثر الموبقاتُ , وتُحَكّمُ التقاليدُ والعادات , قانونهم قانونُ غاب , فالقوي يأكل الضعيفَ , والأرحامُ تُقَطَّع , والعصبية القبَلية سائدة , وكانوا كما قال شاعرهم دُريد ابن الصَمّة :
وما أنا إلا من غزيةَ إن غوت غويت وإن ترشد غزيةُ أرشدِ
وكما قال الآخر :
قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيه لهم ... طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا
لا يَسألون أخاهم حين يَنْدُبهم ... في النَائبات على ما قال بُرْهانا
في هذا الوقت المظلم , والليل البهيم , أراد الله ـ عز وجل ـ لنور النبوة أن يشعَّ في الأفق , وأراد الله أن تشرق شمس الهداية , ويزهرَ فجرُ الإيمان , ويسطعَ بدر الدجى لينير الأكوان , فأرسل الله إلى البشرية جمعاء , سراجاً منيراً , وشاهداً ومبشراً ونذيراً , فأُنير الكونُ بعد ظلمة , وأشرقت شمسُ الهداية بعد عتمة, فبددت دياجيرَ الكفر , وأزاحت غطاءَ الشرك , وحولتْ ظلامَ الجاهلية إلى نورِ محمدي , وهدي سرمدي , وانتقلوا من عبادة الأصنام والأوثان , إلى عبادة الواحد الديان , ومن العصبية القبلية , إلى الأخوة الإيمانية , ومن تنافر القلوب إلى تآلفها , ومن قطع الأرحام إلى صلتها ...........
وتأمل معي ـ أيها القارئ الكريم ـ في هذه المقارنة بين الحالتين التي يصفها جعفر بن أبي طالب بقوله للنجاشي:
( أَيّهَا الْمَلِكُ كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ - فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ - فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ فَعَبَدْنَا اللّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَحَرّمْنَا مَا حَرّمَ عَلَيْنَا ، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، فَعَذّبُونَا ، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا ، لِيَرُدّونَا إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى ، وَأَنْ نَسْتَحِلّ مَا كُنّا نَسْتَحِلّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيّقُوا عَلَيْنَا ، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا ، خَرَجْنَا إلَى بِلَادِك ، وَاخْتَرْنَاك عَلَى مَنْ سِوَاك ؛ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِك ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ) الرحيق المختوم : ص: 102 ـ 103
إذن , لقد أطل شهر ربيع الأول , وولد في الثاني عشر منه سيدُ البشرية محمدٌ صلى الله عليه وسلم , وأرسله الله رحمة للعالمين , لذلك ,كلما أطل علينا هذا الشهرُ الكريم , تعود بنا الذكرى إلى ولادة النبي فيه , فيغشانا الفرحُ, ويعمنا السرورُ , ويبتهج الناس كبيرُهم وصغيرهم , لم لا؟؟ فالجميع سعيد بمولد سيد البشرية , ومنقذها من ضلالها , والسائر بها إلى شاطئ الأمان.
ومما قلته في هذا الشهر العظيم , ومولد النبي الكريم :
ـ شهـــــر الرَّبيــــــــــــــع لقد أتى متهللا والكـــــون أضحــــى ثغــرُه بسَّاما
ما الســــــرُّ يا شهـــــر الربيــع؟أجابني : وُلــِــــــــــدَ النبـــيُّ الهـاشمي إماما
ـ كان الضـــــــــــلالُ على العقول مخيماً والجاهليَّة عــــــــربـــدتْ أيـــــاما
فبُعثت يــــــــا مختــــــار فيــــــهم رحمة ومحقت من أذهـــــــــــانهم أوهاما
وهدمت أركــــــــــان الضـــــلال وبغيَها وبنيت صـــــــــرحا بالهــــداية قاما
وأتيت بالديــــــن الحنيف مشـــــــــــرِّعا فنشـــــــــرت بين ربوعنا الإسلاما
أمضيت عمــــــرك للمحبة داعيـــــــــــاً وأقمت بيــــــن العالمين ســـــــلاما
فعلينا جميعا أن نشكر الله على هذه النعمة , وله الفضل على هذه المنة , وأن نسير على نهج النبي في حياتنا , عملا وسلوكا , ومحبة وتآلفا .......
وأسأل الله أن يعيد علينا هذه الذكرى العطرة , بالخير واليمن والبركة والنصر المبين , إنه قريب سميع مجيب الدعاء .