تذكر الأساطير أن أصل(النرجسية) يعود إلى زهرة النرجس. والنرجسية هي الإعجاب بالنفس. وهي عشق الذات بصورة تفوق الوصف. ولا يفكر النرجسي إلاَّ بذاته. ويحب الأشياء لقربها من نفسه. ويعتقد أنه فوق الجميع وفوق كل نقد. والمشكلة الكبرى لدى النرجسي أنه لا يدرك أنه مريض ويحتاج إلى علاج، على الرغم من أنه يلاحظ جفاء الآخرين وابتعادهم عنه، فهو يرجع السبب بذلك إلى سلوكهم لا إلى سلوكه.
وتتميز الشخصية النرجسية بالتعجرف والنقص في التعاطف مع الآخرين، وفرط الحساسية تجاه آراء الآخرين. وتدَّعي هذه الشخصية أنها تعرف ما يفكر به الآخرون أكثر ما يعرفون عن أنفسهم. ويبالغ النرجسيون في تفوقهم وعبقرياتهم وإنجازاتهم وميزاتهم ومحاسنهم، ويتوقعون من الآخرين أن يعترفوا لهم بالجميل بصورة خاصة، سواء أكان هذا الاعتراف مبرّراً أم غير مبرر، ويستحوذ عليهم وَهْمَ النجاح والغرور والسلطة والتألّق.
والنرجسيون لهم سوق خاصة بهم وربيع دائم. وتزداد أعدادهم يوماً بعد يوم، خاصة من
الذين تبدأ أقلامهم تسكب الحبر على الورق، فيسكبون دموع الفرح إذا وقفوا على
المنابر لقراءة القصائد أو القصص واللقاء مع الجمهور. وتزدهي رياشهم الملونة إذا
سمعوا الإطراء من مادح لغرض في نفسه.. وسرعان ما يحدث الانتفاخ في رؤوسهم وترتفع
أنوفهم نحو السماء شامخة، إذا دُعوا إلى المنابر الثقافية وسجلت أسماؤهم في
البطاقات المذهبة.. وهكذا تنمو النرجسية بجماليتها وإغراءاتها مع ارتفاع نسبة
الغرور في النفس، عندما تذوب ثلوج قمم رؤاهم. وتتحول (إذا لم تعالج هذه العقدة) إلى
مرض نفسيّ يصعب علاجه في فترة زمنية قصيرة. ويمكن أن يتحول إلى مرض مستعصٍ لا دواء
له.
وتروي الأساطير اليونانية، أن(نرسيس) فتى يوناني رائع الجمال، عشق صورته المنعكسة
على الماء، ومات أسى لعجزه عن الإمساك بمعشوقته
فنبتت على قبره زهرة حملت اسمه هي زهرة(النرجس)، أبوه النهر وأمه إحدى الحوريات.
ولم يكن هناك فتى أجمل منه. وحذّره العرَّافون من الاقتراب من النهر خوفاً عليه من
الغرق والموت، إن أراد أن يحيا زمناً طويلاً. وكان جماله الأخاذ لوحة جاذبة للصبايا
والعاشقات، لذلك تجمَّعت حوله الحوريات وشكلن دائرة لحصاره والتمتع بجماله. لكنه
كان يصدهنَّ ويلوح بوجهه عنهنَّ ويمنعهنَّ من الاقتراب منه، بينما كُنَّ يتقطّعنَ
من شدة الحزن والرغبة في امتلاكه. وأحبَّته إحداهنَّ بصدق، وهي الحورية(إيكو)، لكن
الخوف والحذر ظلاَّ مسيطرَيْن عليه. واتَّخذ قراراً صارماً بعدم مبادلتها مشاعر
الحب. فاشتكت العاشقة الولهانة لأفروديت، فلعنته. وكانت اللعنة أن ينظر إلى نفسه!
وفي ذات يوم أغراه خصْم له بالشرب من النهر، وراهنه أنه لن يستطيع أن يفعل وينفذ
هذا الشرط، لكنه تحدَّاه بقوة. وحين اقترب من النهر وجد وجهاً جميلاً، أجمل ما رأت
عيناه على صفحة الماء، فوقع في حُبّه وأصبح يُمعن النظر إلى نفسه. ولكي ترحمه
الآلهة حوَّلته إلى زهرة، وأصبح زهرة النرجس المتجمّلة على صفحة الماء.
وتقول أسطورة يونانية أخرى: إن فتاة تدعى(صدى) هامت بحب فتى يدعى(نرجس). ومن فرط
حبّها له وإعجابها به، سقمت حالها ومرضت وقطعت الطعام والشراب، وبقي الحب زهرة تفوح
رائحتها وتملأ روحها وذاكرتها ونفسها وتخيلاتها. ومن أجله كابدت وصبرت وتحمّلت
الوجع ووخز أشواك الألم، حتى أضناها هذا الحب وجعلها تذبل شيئاً فشيئاً إلى أن
فارقت الحياة! ولكن الآلهة، كما تزعم الأسطورة، لم تترك الفتى دون عقاب، لذلك كان
عقابه قاسياً للغاية حتى أودى بحياته.. كان العقاب أن يعشق نفسه بصورة مَرَضية. إذ
عندما رأى صورته منعكسة على صفحة الماء، أخذ يجلس الساعات الطوال أمام صورته، بكل
فخر وزهو واعتزاز.. واستمر على هذه الحال حتى أنهكه المرض النفسي، بسبب هذا التعلق
الذاتي. وما هي إلاَّ فترة قصيرة حتى فقدَ عقله وأصيب بالجنون.. وفي إحدى خلواته
وعشقه لنفسه قفز إلى بركة الماء ليمسك صورته، ولكنه غرق ومات، وظهرت في مكانه زهرة
سميت على اسمه(نرجس). وهي زهرة النرجس التي لا تزال تعيش في حدائق الحب وتروى بماء
العشق الأبدي.
النرجسية فعل مضاد لمعرفة النفس على حقيقتها. وهي تعبر عن الشخصية المنفوخة كالديك
الذي ينفش أرياشه ويصيح بصوت جهْوَري مغروراً ومتجاوزاً الحد المألوف. ويذكّرنا هذا
بما عرف عن العقاد، اعتداده المفرط بذاته، مما كان يدفعه كثيراً إلى نقد الآخرين
نقداً لاذعاً. ويريد من هذا النقد أن يؤكد أن الكثيرين دونه بمراحل!
شكراً استاذ باسم على ما كتبت النرجسية للأسف باتت الوباء المنتشر بقوة بين الناس في عصرنا الحالي وقد تناولت هذا الموضوع المفصلي والهام في الوقت المناسب. إنه الجمال كم يجر على صاحبه من بلاء. دمت بخير وتقبل مروري