توقفت كثيرا عند هذه الأسطر للأديب يوسف السباعي في رائعته " أرض النفاق " حيث كان يتحدث عن قصة خيالية يقابل فيها رجلا مسنا يبيع " الأخلاق " في زجاجات وعلب , وقد حاول ذلك الرجل أن يبيع الكاتب مسحوقا للشجاعة أو للتواضع أو ......
إلا أن الكاتب أصر على أن يشتري مسحوق الصدق رغم معارضة البائع ورفضه التام , مما جعل الكاتب يخطف هذه الزجاجة من البائع المسن الذي عجز عن منعه من سكب محتوياتها في النهر الذي يشرب منه أهل المدينة , وعندما دخل الكاتب المدينة ليرى آثار فعلته , رأى اضطرابا شاملا وفوضى عارمة بعد أن سقطت أقنعة النفاق والرياء والمجاملات الكاذبة , وظهرت المشاعر والعواطف على حقيقتها , وبدأ كل إنسان يعامل من حوله بصدق وصراحة مما أوقع البلد في دوامة عاصفة , و جعل الكاتب يندم على فعلته ويعود إلى البائع معتذرا آسفا يلتمس منه الحل لهذه ( المصيبة الكبرى ) ألا وهي الصدق !!!!
كان سبب توقفي عند هذه القصة سؤال محير لا بد من طرحه تخرج منه عدة أسئلة لا تقل في حيرتها عنه وهو : هل هذا صحيح ؟؟ هل أننا فعلا لا نستطيع أن نتعايش إلا بأقنعة كثيفة من الأكاذيب والمجاملات والنفاق تغطي مشاعرنا الحقيقية تجاه هذا أو ذاك من الناس ؟؟؟ وما قيمة هكذا حياة نقضيها في خداع بعضنا ؟؟ وما المانع من مصارحة الآخرين بآرائنا الحقيقية فيهم ؟؟
إننا في الحقيقة نقدم أعذارا واهية وحجج ضعيفة لأكاذيبنا وخداعنا أحيانا .. نحن لا نريد أن نكسر قلب فلان أو أن نجرح علان من الناس , وكأننا أناس صالحون لا نريد أن نسيء لأحد !! وكأن الصدق فقط هو أن نقول للأعمى أنت أعمى وللفقير أنت فقير , وللأبله أنت أبله , وإن كان ذلك في الحقيقية هو الصدق الوحيد الذي نمارسه ولا نخاف من عواقبه ما دام الشخص الذي نصارحه " مسكينا " لا يستطيع إيذاءنا أو محاسبتنا , والحقيقة يا سادة هي غير ذلك مع الأسف ....
الحقيقة هي أن مصالحنا الصغيرة وأنانيتنا الضيقة هي التي تجعلنا نجامل هذا وننافق ذاك خوفا من إثارة عدائهم أو لفت انتباههم إلى عيوبنا وسلبياتنا ونقائصنا التي بنينا عليها " حياة الأكاذيب " التي نعيش عليها ونموت فيها متجاهلين أننا ندفع ثمنا فادحا لا يعوض بكل كنوز الأرض ألا وهو ... احترامنا لأنفسنا !!!
لا بد للصادق من أن يكون لبقا في قول الحقيقة أو عند إبداء رأيه وذلك حتى لا يتحول صدقه وصراحته إلى نوع من " الوقاحة " مراعاة لشعور الآخرين , أما في قول الحق فلا مجاملة ولا محاباة ويجب ألا نخاف في الله لومة لائم , فالصدق منجاة , ومن طلب نفاق الناس لإرضائهم وأسخط الله , أسخط الله عليه الناس , ومن طلب رضا الله وأسخط الناس , رضي الله عنه وأرضى عنه الناس
وفي استعراض مختصر لبعض الحالات الاجتماعية حول هذا الموضوع تبدأ " هالة " حديثها :
" غريب أمر ابن آدم , الناس أنفسهم لا يريدونك إلا أن تكذب عليهم وتجاملهم , فعندما صارحت ذات يوم صديقة بعدم راحتي لها , ورغبتي في عدم استمرار العلاقة معها بعد أن اكتشفت عدة أمور أزعجتني منها , قلبت الدنيا رأسا على عقب وشكتني لكل صديقاتي في المدرسة ولامتني على صراحتي الشديدة معها فأنا بطبعي لا أحب أن أجامل أو أن أتملق لأحد ".
وتقول مريم : " تعاني إحدى صديقاتي من زوجها الذي يريدها أن تكون صريحة وصادقة معه في كل شيء , وعندما تخبره بأمر ما أو تطلعه على شيء بصدق أو بموقف قام به أو تبدي رأيها الصريح بشخصه يغضب ويصرخ بوجهها ويهددها فما كان منها إلا أن صارت تكذب عليه وتجامله دائما , فقد كرهت الصدق معه وهذا يفتح لنا الباب أمام تساؤل كبير ليس مدعاة لنقاشنا حاليا هو : هل من شيء اسمه " الصراحة المطلقة بين الأزواج ؟؟؟"
لابد لنا من أن نميز بين المجاملة والنفاق وهذا الأمر يختلط على كثير من الناس , فالمجاملة هي سلوك إنساني اجتماعي الغاية منه التودد والتقرب وإظهار الألفة أحيانا أو بعث العزاء في نفس الآخر الذي يشعر بالنقص أو الحرج من شيء ما أحيانا أخرى يجدها الكثيرون حاجة يومية في أغلب نواحي الحياة ( في العمل , داخل الأسرة , العلاقات الاجتماعية .. )
أما النفاق فهو سلوك الغاية منه انتهازية أي إظهار عكس ما نبطن أو نضمر للآخر بغرض تحقيق مكاسب أو أهداف معينة , وهو سلوك دنيء لأنه يتطلب من صاحبه أن يكون قادرا على الكذب والرياء لغايات معينة
ولكن هل كل مجامل منافق ؟؟
من المؤكد أن كل منافق مجامل ولكن العكس ليس صحيح دائما , والكثير من الناس ينفر من الشخص المجامل وفي المقابل فإن الكثير من الناس يحترم أسلوبهم مادام لغايات نبيلة !!
تحتاج المجاملة إلى قدرة وطاقة يفتقد أسسها الكثيرون , لذلك فهي من منظوري " فن " لا يتقنه إلا المحترفون بغض النظر عن الأحكام التي قد تطلق عليها , وقد أصبح الإنسان الذي يتمتع بالصراحة والصدق المطلقين في كثير من الأحيان مدعاة للنفور , وهذا بالتأكيد خلافا للعقل والمنطق , وأعلل ذلك كنتيجة من نتائج تداخلات الحياة الاجتماعية الكثيرة في وقتنا هذا وبعدنا عن أسس الأخلاق والدين .
بالمقابل ترى " مع الأسف " الإنسان المجامل يحظى "غالبا" بالبشاشة والترحيب رغم معرفة الكثيرين لحقيقته ولكنها النفس البشرية – سبحان الله – التي تألف المدح والكلام الجميل وتنبذ الذم والنقد حتى لو كان حقيقة وصدق , من هنا كانت قصور الأمراء والملوك منذ سالف العصور مرتعا للشعراء , وكم بلغ الكثير منهم حظوة ومكانة عظيمة نتيجة بيت شعر نظمه مع علم صاحب الشأن أن فيما قاله زيف ومجافاة للحقيقة وقد قال رب العالمين في محكم تنزيله عن الشعراء " والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم في كل واد يهيمون , وأنهم يقولون ما لا يفعلون " صدق الله العظيم " سورة الشعراء "
حقيقة تصادفنا الكثير من المواقف التي تستدعي منا أن نخرج عن طباعنا أو أن نتقمص شخصية أخرى ونجامل من باب الذوق واحترام شعور الآخر لا أكثر دون غشه , وهذا ليس دليل نقص أبدا , فالمعروف أن الصراحة وقول الحقيقة تحتاجان إلى جرأة وشخصية قوية يفتقدها الكثيرون , ولكن من دواعي الحكمة أيضا أن نقدر المواقف التي تستدعي منا بعض المجاملة دون الخروج عن المبدأ فكم من كلمة حق أودت بصاحبها في مهاوي الردى لا لشيء إلا لأنها قيلت في غير زمانها ومكانها المناسبين نتيجة سوء تقدير , وليست الصراحة والأسلوب المباشر " الجاف " هما الحل دائما ومن هنا فقد كان للكلمة الطيبة الصادقة بالغ الأثر في النفوس ولو تخللها بعض المجاملة للوصول للهدف المنشود .
وتضطر المجاملة الكثير من الناس إلى الظهور بأكثر من شخصية لدرجة قد تصل إلى الكذب والنفاق ويصبح ذلك هو طبعهم الطاغي عليهم فيفتقدون القدرة على التمييز فيمن يوجب أو لا يوجب مجاملته ... لقد اختلطت الأمور عليهم ودخل الحابل بالنابل ففقدوا كل احترام ومصداقية أمام الآخرين , ومن هنا ذكرنا أن في المجاملة فن وحرفية يفتقدها الكثيرون فهي سلاح ذو حدين وجب على من لا يتقنه ألا يقترب منه , وبالمقابل وجب على من يريد أن يجامل أن يلتزم بحدود المجاملة فلا يقلب الموازين ويجعل الأعلى أسفل أو العكس ليحافظ على مصداقيته واحترامه لنفسه أمام الغير ...
ختاما أحبائي فليقدر كل منا مدى حاجته للمجاملة في حياته ومدى قدرته على ممارستها فالأمور نسبية وتختلف من شخص لآخر وقد حاولت قدر استطاعتي شرح ما أمكنني عن هذا الموضوع الشائك والمعقد وأرجو من الله أن أكون قد وفقت ..... مع خالص تمنياتي لكم بحياة ملؤها الصحة والسعادة والصدق والمحبة ودمتم سالمين .
E.N.D
من القلب أشكر كل من قرأ أو علق على هذه المقالة , حقيقة ( ومن دون مجاملة أو كولكة أو كذب أو نفاق ) لا معنى لهذه المقالة إلا بوجودكم أيها الأحبة وأخص بالشكر الأصدقاء الدائمون الغوالي .. سحر الشرق , الحمامة البيضاء , بشار الغالي , محمد الشوا , white flower , ahmed , والشكر الخاص جدا للمخلصين شنايدر ( زورو ) وعبود .. لكم خالص محبيتي وشكري أشكر هذا الموقع الذي أقدر وأحترم .. وإلى لقاء آخر إن شاء الله
الأستاذ شنايدر لفت نظري بتعليقك الموضوعية الي تناولت فيها الموضوع..وبشكل عام فلسفة الكولكة قائمة على خمس اسئلة..متى؟؟..اين؟؟..من؟؟..لماذا؟؟..كيف؟؟..وبعتقد تعليقك الرائع تضمن بشكل او بآخر الأجابات على هي الأسئة..وبالنسبة لانواع المكولكين فبعتقد اني اقرب الك..فالوصولية بتتحقق بالتفوق واتقاء شر الناس بعدم الاقتراب منهم..بس انا اذا عندي شخص بحبو مافي مشكلة اني ازيد ثقتو بنفسو..شنايدر تجربتك بالحياة مدرسة بحد ذاتها وانا كتير بستمتع بقراءة تعليقاتك..تحياتي الك ولأياد
أخي إياد العزيز أشكر جهودك.. المجاملة مطلوبة وهي مهمة جداً لشتى المجالات حتى إن لم تدخل المصلحة وقد شرع لنا الإسلام أن نكذب في بعض الحالات كي لا ننشر البغضاء بين الناس ونتقي الشر كالمجاملة بين أفراد الأسرة وإلا لحصل كره بينهم وكمجاملة الفقراء واليتامى أو حتى الأصدقاء والتبسم لهم وجبر كسرهم وجلاء همومهم، أما المجاملة التي تفوق حدها فهي منبوذة لأنها تظهر الكذب العلني خاصة ما نراه من التجار وأرباب الأعمال وهم يكنون الكذب والنفاق.. فالأولى أن يعلم الإنسان متى يستخدم المجاملة في موضعها الصحيح
إنتقدصديقك تخسره، إنتقدزوجتك فتجننك، إنتقد العامل بيشكي عليك، إنتقدأمك فهابي هالاوين ولوصارعمرك 40سنة، إنتقدأختك بتسبك وتخرمشك، إنتقدأخوك زبلك، إنتقد وإنما إجعل باعتبارك أنك قادرعلى الإستغناءأومعادةمنتنتقده، وإلافالصمت والمجاملةهماالسبيل للراحة، من الحكمةترك الآخرين لشؤونهم، لأنوصدقني متماالواحدعلق أوتورط بشي بلوةإماعديخلص منابأي طريقة،وبقول:ياريتني ماحكيت ولاتحركشت، أماأنافلاأحب الكولكةبنوعيهاوأستعيض عنهمابالصمت. وللأمانةقدأكولك إذاخفت أولإسعادالآخروتدليله وذاك نادر, شكراللأستاذين إيادوعبود.
للمجاملات أنواع كثيرة، أما عن الإنتقاد والكولكة: ابتداء من الشمس التي لايمكن تعديل حرارتهاوزمن شروقهاوغروبها..وهيييك ضل انزل... إذن نحن محكومون ومسيرون بطريقةما! لايمكن إنتقاد المجتمع أوالعادات أوالتقاليد حتى لاتصبح منبوذا، وداخل الأسرة قدتتوسع الحريةأوتضيق إنماتظل حسب رغبةالأب.. قال لي أبي لماكنت عريس جديد: عن أي حرية للزوجة تتكلم؟ فسألته وماذاعن الديمقراطية؟ فأجابني إنهاوهم وليست موجودة! ثبت لي أن كلامه صحيح، مثلاهل يمكن انتقادصاحب الشركةالتي تعمل بها؟ إذن فالطردسيكون حليفك، إنتقدصديقك تخسره،
المجاملة ضرورية بمجتمعنا من باب /ما عبد الله بأحب إليه من جبر الخواطر/ لكن أن تنقلب إلى كذب ونفاق وتحويل الحقائق لإرضاء الناس هذا شي سيء كثير وبيخلينا نرجع لورا بدل ما نتقدم ونتطور ونستمر بأخطائنا بدل ما نلاقي مين ينبهنا عليها ونصلحها
مقالة رائعة بكل معنى الكلمة بس هيدا الكلام بخص العرب بشكل عموم لان الاجانب ما عندهن مجاملةوكذب و حسد لهيك احيانا منشوفهن باردين و لئمة كتير كل واحد بحالو واكيد هيدا الاحسن (من حكم تجربتي )اكيد بالبداية منشوفها صعبةو مملة و مع الايام الواحد بيتعود مشكلة الوحيدة انك ما بتحسن الوثوق بحدا لانك ما بتعرف ردة فعلهن .........
الكولكة كمفهوم اجتماعي هي عبارة عن عقلية..ومتل ماتفضلت حضرتك علم وفن..بس لازم نميز بين نوعين من المكولكن..في المكولك الانتهازي الي بدو يوصل لهدف ما..والمكولك الوقائي الي بدو يتقي شر الناس..والمثال الس سقتو حضرتك موفق عن بطل ارض النفاق كيف أخد جرعة الشجاعة وفكر حالو رح يصير سوبر مان فعلق مع حماتو ومع معلمو وانحبس بالسجن..ومشان مانروح لبعيد كولك لأي واحد بالموقع وشوف كيف رح يظهرك بمظهر المثقف الي بيفهم كلشي والي نادر وجودو بهيك زمن..او انتقد وشوف بأي خانة رح تحشر..يسلمو اياد وسلامي لصديقي زوركوف
لقد عم الكذب والنفاق والمجاملة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة .. مساهمة غاية في الروعة ..دمت بخير
مقالة رااائعة، لاحظت التأنق في انتقاء الألفاظ والعبارات ..امتزاج الفكر بالعاطفة , ويلعب الخيال دوره في إبراز أفكار الكاتب وعواطفه ، ياسلام شي حلو كتير، وبانتظار المزيد
مقالة رائعة , برأيي أن الصدق والصراحة هما الأساس مهما كلف الأمر .. شكرا للكاتب
موضوع إجتماعي هام جدا جدا , اسمح لي أن أبدي إعجابي بطريقة تناولك له رغم تعقيده فقد قدمته بطريقة شيقة ممتعة تجبر القارئ للمتابعة حتى آخر حرف ..وكان المدخل بهذه القصة الرائعة ... دمت بخير وأتمنى أن أقرأ لك المزيد والمزيد ..
مقاله جميله وتدل على المخزون الثقافي اللذي تمتلكه وهو ناجم عن التعمق والتبحر في القراءه والتحليل عندك وهذا واضح من جميع مقالاتك وانا ارى ان الصمت عند الناس في بعض الامور الحساسه ضروري وافضل من النفاق والمجامله ولا يدل على السلبيه وكما قيل اذا كان الكلام من فضه فالسكوت افضل وفقك الله وننتظر المزيد من هذه الروائع
شكر لإبداعك
المجاملة ضرورية في حياتنا من باب(ما عبد الله بأحب إليه من جبر الخواطر)لكن أن تزيد وتنقلب إلى نفاق وكذب وقلب الباطل حق لارضاء الناس فهذا شيء خطير يضر بالمجتمع ويسير به الى الهاوية فمن الضروري أن نجد من ينبهنا لاخطائنا لنتجنبها
عزيزي السيد اياد اظن بأنك قد اتيت بالكثير من الشرح الوافر ولا يحتاج احد لاكثر من هذا حتى يفهم او ان يعيد حساباته ولك الشكر
لقد تعرضت لكثير من المواقف المذكورة وأغلب ظني أنها كانت نفاق وما أكثر المنافقون والمجاملون .. مقالتك رائعة ياسيدي
عزيزي المهندس إياد ... مقالة رائعة رغم صعوبة الموضوع .. فقد استطعت طرحه بطريقة لم أكن أتخيلها جعلتني أتمنى لو كانت أطول .. شكرا لك
أب شادي الحبيب ٫٫٫ أنا أريت المقالة من كام يوم ، بس الحئيئة ما عرفت شو بدي علق، لان الموضوع مالي خبرة فيو وما بعرف كتير عنو، يعني أنا بنئصني كتير بهلمجال٫٫٫ بس المقالة حلوة، يعني طرئية تجميع الأفكار وربطها وتنسيقها فيو فن٫٫٫